توجان تكتب عن ظاهرة البرادعي في مصر

تم نشره الخميس 18 آذار / مارس 2010 02:25 صباحاً
توجان تكتب عن ظاهرة البرادعي في مصر

المدينة نيوز - توجان فيصل - واضح أن التفاف المصريين حول الدكتور محمد البرادعي هو دليل يأس من كل ما هو قائم في مصر , ليس فقط ما هو قائم من حكم فاشل يراد له أن يورث , بل يأس أيضا ممن طرحوا ويطرحون أنفسهم كبدائل على الساحة المصرية . ولا يختلف الأمر إن كان من يطرح نفسه من رجالات الدولة , أو من الأحزاب التي غدت كلها معارضة , ليس لأن لديها كلها برامج مخالفة لبرنامج الحزب الحاكم, ولكن لكون الحزب الحاكم لا يقبل اقتسام أي من سلطاته وامتيازاته . والأخير نابع من كون ما يسمى بالحزب الحاكم ليس حزبا حقيقة , بل هو ناد نخبوي مغلق يرفض التوسع - كما يفترض بالحزب- بضم كوادر جديدة .. هو فقط يسعى لتوسيع دائرة " الأتباع ".

وذات الشيء حدث للأحزاب الأخرى التي وجدت نفسها في سلة المعارضة, من عارض منها ومن لم يعارض, فلم تعد هي أيضا "أحزابا " تتأهل للمنافسة على الحكم . وخطيئة هذه الأحزاب التي أسقطتها كخيار يراهن عليه الشارع المصري , أنها رضيت مطولا , وبالتالي خضعت وسلمت لحد بعيد , بالأطر والمحددات التي وضعها لها الحكم ( ولا نقول الحزب الحاكم ), وبخاصة المحددات القانونية وصولا للدستورية , بحيث أصبح من الصعب تصنيفها كأحزاب حسب المواصفات المعتمدة دوليا . وما حال دون أن تتمرد هذه الأحزاب كما يجب لاستعادة هويتها الحزبية – كائنا ما كانت أيديولوجياتها أو برامجها – وبالتالي مساحة حراكها الحزبي في الشارع , هو ليس فقط القمع الذي مورس عليها . فالقمع بيّن وصريح , ولهذا يسهل إسقاطه إن أصرت مجاميع شعبية, ناهيك عمن يسمون أحزابا, على رفضه . ما جعل هذه الأحزاب لا تتمرد هو أنها تواطأت , بدرجة أو بأخرى مع الحكم (وهو ما يتكرر في أكثر قطر عربي ) , على أمل أن تحصل على مكاسب جانبية من الإحتكار المركزي الجاري . ومنه على سبيل المثال سكوتها عن رفض الحكم التصريح لأحزاب أخرى عدة بالعمل . وبتسلسل التواطؤ مع هكذا محددات ,تلاها "تحالفات " جرى فيها إدخال بعض مرشحي بعض الأحزاب من باب "الأتباع " حقيقة وليس الحلفاء ..أصبحت كل الأحزاب القائمة أصغر وأضعف من أن تطرح مرشح رئاسة . وتفوق عليها أول مرشح فرد يطرح عرضا , فيقبل بسهولة بالغة بالذات لأنه فرد لم يتلوث بمجموع أخطاء مجاميع حزبية .

وبعمومه الأمر لا يخرج عن كونه تكرارا لنمط سلوك بشري معروف في علم البشر والمجتمعات البشرية , "الأنثروبولوجي " . وأشهر تجسيدات هذا النمط وأكثرها اكتمالا - باعتبار أن الواقع وبخاصة الواقع السياسي يظل منقوصا بينما الأسطورة وحدها تكتمل- هو تجسيداته في الميثولوجيا . فالمجموعات البشرية كلها, إن ساءت أمورها لدرجة استحال معها الإصلاح المتفق عليه جمعيا أو بأكثرية حاسمة , تبدأ بالبحث عن مخلّص فرد , غالبا ما يكون واحدا من تلك المجتمعات بالأساس ولكنه تغرب عنها لفترة .. أي انه واحد منها ولكنه ليس جزءا من واقعها المتردي . ويغلب أن تكون الغربة بدأت منذ الطفولة , أي بما يبرئ المنقذ العائد من كل موبقات المرحلة تماما. أو يميّز هذا المنقذ عن عامة الناس بكونه نصفه منهم لجهة الأم في الأغلب , ولكن نصفه الآخر إلهي , والآلهة كانوا حكاما يعتقد أو يزعم الملوك أنهم يمثلونهم على الأرض. أما العائق أو المشكل المطلوب الخلاص منه , فيتجسد في قوة غاشمة صغيرة , وفي الأغلب حاكم فرد أو وحش أسطوري , يتحكم بشكل تعسفي بتلك المجموعة البشرية ولفترة طويلة.

وقصة الملك أوديب الذي أنقذ طيبة من الوباء الذي ابتلاها به الوحش الأسطوري , ولكن الممتدة جذوره - أي جذور الوباء باعتباره عقوبة جمعية على التواطؤ - لمرحلة سياسية سلطوية خاطئة ( الملك الذي كان سيقتل ابنه الطفل ليتمسك بعرشه ) .. هذه القصة المعروفة توفر النموذج النمطي الذي نجد رديفا له في كل حضارات العالم وأديانه . في المسيحية نجد المسيح ذاته يجسد الطفل نصف البشري ونصف الإلهي الذي يظهر في شبابه في صورة المخلّص . كما نجد قصة النبي إسماعيل في القصص القرآني .

وقد لا يتنبه الكثيرون إلى أن هذا التوق الكامن في النفوس البشرية لمخلص موعود تتوارث الأجيال سيرته بأكثر من نسخة ميثولوجية , قد يجد طريقه إلى السياسية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين . ولكن رؤية الصورة الكلية ممكنة إذا تذكرنا أن الطبيعة البشرية هي ذاتها , بحاجاتها وتطلعاتها وآمالها وآلامها .. ولكن وسائلها هي التي تتغير. ولو لم يكن البشر هم ذاتهم منذ آلاف السنين , لما تعاطف ملايين البشر في أنحاء مختلفة من العالم مع الأعمال الأدبية التي تعود لمئات وآلاف السنين , ولما وظفت الكتب السماوية القصص التي تتحدث عن عصور قديمة , بهدف تعريف البشر بطبيعتهم ونقاط ضعفها وسبل خلاصها .

من هذا المنظور يمكن للعقل المعاصر أن يفهم ما يبدو غريبا في ظاهرة حديثة جدا كالبرادعي . فالبرداعي هو واحد من نسخ قليلة تتاح الآن بهذا الوضوح فقط في عالمنا الثالث ,أي في ما تبقى من العالم تلزمه معجزة , لا اقل, للخلاص من حاله المتردي . فالبرادعي هو مصري تغرب لسنوات , وعاد مصقولا وبرصيد من الإنجاز يجعله الأقرب – في التعريف المعاصر – للبطل . و "مصريته " تجسد جانب الأم الصالحة ولكن المقموعة أو المضطهدة, والأم في الطبيعة وقوانينها هي الأقرب للطفل الذي هو امتداد جسدي ووجداني لها .أما المكون الأبوي للبرادعي ( التنشئة في عالم الرجال وليس أبوه البيولوجي ) فيتأتى من ثقافته وعلمه وعمله في الخارج لدى آلهة العصر الحديث : الغرب والأمم المتحدة التي هي مجلس حكم ومجلس حرب ذلك الغرب المتحكم بمصائر البشر. واعتراف الغرب به باعتباره من سويتهم وبقدر يستحق تنصيبه في مقام عال في مجلس حكمه , هو شهادة الأبوة تتأتى من "الأولمب " الذي انتقل في عالمنا المعاصر من قمم جبال اليونان - أو أية قمم جبال أخرى تقطنها الآلهة في أساطير أمم أخرى - إلى نيويورك وواشنطن , وجنيف كحلقة وصل أو محطة متقدمة للتعامل مع هذا الجزء من العالم الذي نحن منه .

هذا عن تأهل البرادعي لنمط المخلّص الميثولوجي الكامن في وجداننا الجمعي كبشر , وفي صورة محدثة جدا لأن كل مخلص يجب أن يناسب عصره , او ينقلب لأضحوكة كما جرى لدون كيشوت , الذي "مهزلته " هي في الحقيقة "مأساة " فارس يسعى لممارسة فروسيته بعد زوال عصر الفروسية . وووصفنا هذا لا يعني وضع البرداعي في مرتبة نبوة كالمسيح او بطل أسطوري كأوديب أو أخيل .. مع أن " الملك أوديب " الحقيقي , لو توفر لنا تاريخه الحقيقي وليس نسخته الأسطورية, كان مجرد ملك صغير لبلدة طيبة التي لا يصل تعداد سكانها لسكان أصغر حي في القاهرة . وثابت حتى من أسطورته أنه ارتكب موبقات يستحيل على رجل في مواصفات ورقي البرادعي أن يقارب أيا منها . ما قدمنا به هنا هو شرح علمي لحقيقة التأهل الذي أتيح للبرادعي بما يفتح الباب واسعا أمامه للإنجاز , كونه يعني أن القبول به إنما ينبع من عمق الوجدان الجمعي لشعبه .. بقي ما يلزم أن يقوم به البرادعي , بمعايير سياسية تتعلق بممارسات العصر الحديث وطرائقه , ليتمكن من النجاح في مهمته . ولهذا حديث آخر سياسي بحت , في مقال آخر سياسي بحت.



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات