توجان تكتب عن ظاهرة البرادعي في مصر

المدينة نيوز - توجان فيصل - واضح أن التفاف المصريين حول الدكتور محمد البرادعي هو دليل يأس من كل ما هو قائم في مصر , ليس فقط ما هو قائم من حكم فاشل يراد له أن يورث , بل يأس أيضا ممن طرحوا ويطرحون أنفسهم كبدائل على الساحة المصرية . ولا يختلف الأمر إن كان من يطرح نفسه من رجالات الدولة , أو من الأحزاب التي غدت كلها معارضة , ليس لأن لديها كلها برامج مخالفة لبرنامج الحزب الحاكم, ولكن لكون الحزب الحاكم لا يقبل اقتسام أي من سلطاته وامتيازاته . والأخير نابع من كون ما يسمى بالحزب الحاكم ليس حزبا حقيقة , بل هو ناد نخبوي مغلق يرفض التوسع - كما يفترض بالحزب- بضم كوادر جديدة .. هو فقط يسعى لتوسيع دائرة " الأتباع ".
وذات الشيء حدث للأحزاب الأخرى التي وجدت نفسها في سلة المعارضة, من عارض منها ومن لم يعارض, فلم تعد هي أيضا "أحزابا " تتأهل للمنافسة على الحكم . وخطيئة هذه الأحزاب التي أسقطتها كخيار يراهن عليه الشارع المصري , أنها رضيت مطولا , وبالتالي خضعت وسلمت لحد بعيد , بالأطر والمحددات التي وضعها لها الحكم ( ولا نقول الحزب الحاكم ), وبخاصة المحددات القانونية وصولا للدستورية , بحيث أصبح من الصعب تصنيفها كأحزاب حسب المواصفات المعتمدة دوليا . وما حال دون أن تتمرد هذه الأحزاب كما يجب لاستعادة هويتها الحزبية – كائنا ما كانت أيديولوجياتها أو برامجها – وبالتالي مساحة حراكها الحزبي في الشارع , هو ليس فقط القمع الذي مورس عليها . فالقمع بيّن وصريح , ولهذا يسهل إسقاطه إن أصرت مجاميع شعبية, ناهيك عمن يسمون أحزابا, على رفضه . ما جعل هذه الأحزاب لا تتمرد هو أنها تواطأت , بدرجة أو بأخرى مع الحكم (وهو ما يتكرر في أكثر قطر عربي ) , على أمل أن تحصل على مكاسب جانبية من الإحتكار المركزي الجاري . ومنه على سبيل المثال سكوتها عن رفض الحكم التصريح لأحزاب أخرى عدة بالعمل . وبتسلسل التواطؤ مع هكذا محددات ,تلاها "تحالفات " جرى فيها إدخال بعض مرشحي بعض الأحزاب من باب "الأتباع " حقيقة وليس الحلفاء ..أصبحت كل الأحزاب القائمة أصغر وأضعف من أن تطرح مرشح رئاسة . وتفوق عليها أول مرشح فرد يطرح عرضا , فيقبل بسهولة بالغة بالذات لأنه فرد لم يتلوث بمجموع أخطاء مجاميع حزبية .
وبعمومه الأمر لا يخرج عن كونه تكرارا لنمط سلوك بشري معروف في علم البشر والمجتمعات البشرية , "الأنثروبولوجي " . وأشهر تجسيدات هذا النمط وأكثرها اكتمالا - باعتبار أن الواقع وبخاصة الواقع السياسي يظل منقوصا بينما الأسطورة وحدها تكتمل- هو تجسيداته في الميثولوجيا . فالمجموعات البشرية كلها, إن ساءت أمورها لدرجة استحال معها الإصلاح المتفق عليه جمعيا أو بأكثرية حاسمة , تبدأ بالبحث عن مخلّص فرد , غالبا ما يكون واحدا من تلك المجتمعات بالأساس ولكنه تغرب عنها لفترة .. أي انه واحد منها ولكنه ليس جزءا من واقعها المتردي . ويغلب أن تكون الغربة بدأت منذ الطفولة , أي بما يبرئ المنقذ العائد من كل موبقات المرحلة تماما. أو يميّز هذا المنقذ عن عامة الناس بكونه نصفه منهم لجهة الأم في الأغلب , ولكن نصفه الآخر إلهي , والآلهة كانوا حكاما يعتقد أو يزعم الملوك أنهم يمثلونهم على الأرض. أما العائق أو المشكل المطلوب الخلاص منه , فيتجسد في قوة غاشمة صغيرة , وفي الأغلب حاكم فرد أو وحش أسطوري , يتحكم بشكل تعسفي بتلك المجموعة البشرية ولفترة طويلة.
وقصة الملك أوديب الذي أنقذ طيبة من الوباء الذي ابتلاها به الوحش الأسطوري , ولكن الممتدة جذوره - أي جذور الوباء باعتباره عقوبة جمعية على التواطؤ - لمرحلة سياسية سلطوية خاطئة ( الملك الذي كان سيقتل ابنه الطفل ليتمسك بعرشه ) .. هذه القصة المعروفة توفر النموذج النمطي الذي نجد رديفا له في كل حضارات العالم وأديانه . في المسيحية نجد المسيح ذاته يجسد الطفل نصف البشري ونصف الإلهي الذي يظهر في شبابه في صورة المخلّص . كما نجد قصة النبي إسماعيل في القصص القرآني .
وقد لا يتنبه الكثيرون إلى أن هذا التوق الكامن في النفوس البشرية لمخلص موعود تتوارث الأجيال سيرته بأكثر من نسخة ميثولوجية , قد يجد طريقه إلى السياسية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين . ولكن رؤية الصورة الكلية ممكنة إذا تذكرنا أن الطبيعة البشرية هي ذاتها , بحاجاتها وتطلعاتها وآمالها وآلامها .. ولكن وسائلها هي التي تتغير. ولو لم يكن البشر هم ذاتهم منذ آلاف السنين , لما تعاطف ملايين البشر في أنحاء مختلفة من العالم مع الأعمال الأدبية التي تعود لمئات وآلاف السنين , ولما وظفت الكتب السماوية القصص التي تتحدث عن عصور قديمة , بهدف تعريف البشر بطبيعتهم ونقاط ضعفها وسبل خلاصها .
من هذا المنظور يمكن للعقل المعاصر أن يفهم ما يبدو غريبا في ظاهرة حديثة جدا كالبرادعي . فالبرداعي هو واحد من نسخ قليلة تتاح الآن بهذا الوضوح فقط في عالمنا الثالث ,أي في ما تبقى من العالم تلزمه معجزة , لا اقل, للخلاص من حاله المتردي . فالبرادعي هو مصري تغرب لسنوات , وعاد مصقولا وبرصيد من الإنجاز يجعله الأقرب – في التعريف المعاصر – للبطل . و "مصريته " تجسد جانب الأم الصالحة ولكن المقموعة أو المضطهدة, والأم في الطبيعة وقوانينها هي الأقرب للطفل الذي هو امتداد جسدي ووجداني لها .أما المكون الأبوي للبرادعي ( التنشئة في عالم الرجال وليس أبوه البيولوجي ) فيتأتى من ثقافته وعلمه وعمله في الخارج لدى آلهة العصر الحديث : الغرب والأمم المتحدة التي هي مجلس حكم ومجلس حرب ذلك الغرب المتحكم بمصائر البشر. واعتراف الغرب به باعتباره من سويتهم وبقدر يستحق تنصيبه في مقام عال في مجلس حكمه , هو شهادة الأبوة تتأتى من "الأولمب " الذي انتقل في عالمنا المعاصر من قمم جبال اليونان - أو أية قمم جبال أخرى تقطنها الآلهة في أساطير أمم أخرى - إلى نيويورك وواشنطن , وجنيف كحلقة وصل أو محطة متقدمة للتعامل مع هذا الجزء من العالم الذي نحن منه .
هذا عن تأهل البرادعي لنمط المخلّص الميثولوجي الكامن في وجداننا الجمعي كبشر , وفي صورة محدثة جدا لأن كل مخلص يجب أن يناسب عصره , او ينقلب لأضحوكة كما جرى لدون كيشوت , الذي "مهزلته " هي في الحقيقة "مأساة " فارس يسعى لممارسة فروسيته بعد زوال عصر الفروسية . وووصفنا هذا لا يعني وضع البرداعي في مرتبة نبوة كالمسيح او بطل أسطوري كأوديب أو أخيل .. مع أن " الملك أوديب " الحقيقي , لو توفر لنا تاريخه الحقيقي وليس نسخته الأسطورية, كان مجرد ملك صغير لبلدة طيبة التي لا يصل تعداد سكانها لسكان أصغر حي في القاهرة . وثابت حتى من أسطورته أنه ارتكب موبقات يستحيل على رجل في مواصفات ورقي البرادعي أن يقارب أيا منها . ما قدمنا به هنا هو شرح علمي لحقيقة التأهل الذي أتيح للبرادعي بما يفتح الباب واسعا أمامه للإنجاز , كونه يعني أن القبول به إنما ينبع من عمق الوجدان الجمعي لشعبه .. بقي ما يلزم أن يقوم به البرادعي , بمعايير سياسية تتعلق بممارسات العصر الحديث وطرائقه , ليتمكن من النجاح في مهمته . ولهذا حديث آخر سياسي بحت , في مقال آخر سياسي بحت.