أنت "فزعتنا"!

ما إن يحظى أحدهم بمنصب -علا شأنه أو قل- حتى تتشكل في مواجهته أسوار وقيود على شكل عبارات وسلوكيات مجرّمة قانونا، تدعوه إلى التمييز بين شخص وآخر، من قبيل: "ترى إنت فزعتنا"، و"اللي ما فيه خير لأهله ما في خير لحدا".
والحالة هذه، تبدأ معاناة الرجل في منصبه الجديد، وهي شاقة. فهو وإن لم يكن فاسدا، ستدفعه تشوهات محيطه وشبكة العلاقات والمصالح الراهنة إلى أن يكون كذلك، منخرطا في مسلسل ضرب "تكافؤ الفرص"، وسرقة حقوق الآخرين، وتغييب النزاهة والعدالة والمعيارية الصارمة في تسيير أمور الدولة ومؤسساتها، العامة والخاصة. وللأسف، فإن كثيراً من المسؤولين في بلادنا ينخرطون في هذه الجوقة التي لا تعرف لها نهاية إلا عندما يعود المسؤول إلى بيته محالا على التقاعد.
مظاهر هذا الفساد واسعة بشكلها الاقتصادي والاجتماعي، ويتعامل معها المجتمع بتواطؤ لا يمكن إنكاره. إذ تتم ملاحقة صاحب المنصب بكل وسائل الضغط والتأثير. ففي البداية، ينتشر رقم هاتفه الخلوي في كل المملكة، لتنهال عليه الاتصالات التي تربك يومه من دون أدنى شك، فهي اتصالات لا تعرف ليلا أو نهارا. ومن غير المفيد أن يحاول المسؤول تغيير رقم هاتفه؛ إذ سرعان ما ستحصل شبكة المصالح والفساد على الرقم الجديد، ليتواصل القلق. وأعرف مسؤولا كسر هاتفه الخلوي، بضربه بالأرض، أكثر من مرة، بسبب الضغوطات التي تلاحقه جراء هذه الدوامة غير المنتهية.
هذا ناهيك عن مساعي الرشى الناعمة، من قبيل "ترى ذبيحتك جاهزة"، وليغرق المسؤول مجددا في ولائم ودعوات أغلبها ذات بعد مصلحي ضيق، لا علاقة له بمصلحة الاقتصاد أو مصلحة الأردنيين عموما.
في الخلاصة، يرافق القلق والصداع المسؤول في سنوات تسنمه المنصب. فإن واجه المجتمع ورفض هذه الجوقة، دفع أثمانا باهظة، بأن يصبح "قصة على كل لسان". وإن انخرط فيها سيخسر هو شخصيا، ويخسر الاقتصاد كله، وتبقى العدالة الاجتماعية والاقتصادية والحاكمية والنزاهة وغيرها من ملامح الحكم الرشيد، شعارات تتردد فقط في الندوات والمؤتمرات وفي أروقة الجامعات، ولا يعنيها أحد على الإطلاق.
هذا الفساد الاداري والوظيفي والأخلاقي منتشر في كل أرجاء المنطقة العربية. فقد أخفقت كل الدول العربية العام الماضي في الوصول إلى درجة النجاح في مؤشر مدركات الفساد، فحصلت على تقدير متوسط يبلغ 35 درجة من 100 درجة، بما يعني وجود فساد بالغ في المنطقة. وعلى المستوى المحلي، حل الأردن في المرتبة الخامسة والخمسين من أصل 175 دولة ضمن هذا المؤشر العالمي، وهي مرتبة غير مطمئنة.
التعميم الذي أصدره، الأسبوع الماضي، وزير العمل نضال القطامين، لموظفي وزارته، يحظر فيه اللجوء إلى "الذوات وكبار الشخصيات" بقصد الواسطة لتحقيق مكاسب شخصية، يروي فصلا من فصول "الابتزاز" كما جاء في التعميم، و"توريث البغضاء والشحناء بين الناس" التي تتفشى في أوساط المجتمع، بسبب إصرار الموظفين وغيرهم على "قنص" امتيازات وفرص ليست لهم.
يكاد الكل يريد الاعتداء على حقوق الكل. والفرصة غير متاحة للمسؤول -الذي وصل للمنصب من دون واسطة- لكي يعمل ويبدع، ويحقق أفكاره وخططه، في ظل هكذا واقع سلبي ومرتبك وغيرعادل. والمخجل أن جوقة الواسطة والمحسوبية تضم بين مؤدي معزوفتها النشاز نوابا وأعيانا ووزراء ورؤساء جامعات وأكاديميين.. والقائمة تطول.
(الغد 2015-07-11)