أيام المعمول المنقوش

تم نشره الإثنين 13 تمّوز / يوليو 2015 01:21 صباحاً
أيام المعمول المنقوش
د. ديمة طارق طهبوب

كان تقليدا سنويا تجتمع له العائلة والأحفاد، ذكورا وإناثا، والكل يجب أن يساعد الجدة في إعداد أطنان المعمول لكل الأسرة الممتدة، حتى البنات المتزوجات والمغتربين والجيران. يوما لإعداد الخلطة التي تفوح عبقا من أول الشارع، ويوما للحشو والخبز.

كانت جدتي هي المايسترو، وكانت لا تقبل بأقل من قطعة فنية على شكل دائرة محشوة بالتمر أو الجوز أو اللوز، كانت عنايتها بالتفاصيل الى أبعد الحدود وكأنها مهندسة ستخرج للعيان تحفة للناظرين، كان لا بد من نقش كل قطعة بحرص ودقة بمناقيش خاصة، وكل قطعة تستغرق وقتا حتى تنتهي وقد لا تنال رضى الجدة، ويكون نصيبها الإعادة!

لم تكن جدتي ترضى بالقوالب الجاهزة وكانت تقول «هذه للمايلات» اللواتي لا يعرفن الطبخ والخبز، كان هذا الزمن قبل أن تفتح في بلادنا أسواق تعرف بأسواق الكسالى أو الكسلانات التي توفر كل شيء ولا يبقى على ربة البيت، أو الخادمة، سوى وضع الطبخة الجاهزة في الفرن، زمننا هذا أصبحت فيه رباب سيدة مجتمع وسيدة مولات وزيارات، ولم تعد كما مدحها بشار بن برد «رباب ربة البيت تصب الخل في الزيت لها تسع دجاجات وديك حسن الصوت».

كان عمل المعمول المنقوش اجتماعا عائليا وفرحة عامرة وتواصلا بين الكبار والأطفال فقدناه، وأصبحنا نشتري المعمول جاهزا من الأسواق، أو استبدلناه بحلويات أخرى غربية أو شرقية، فحلويات الأجداد من العهود البائدة التي لم تعد تناسب التقدم والتمدن!

في زمن المعمول المنقوش كان العيد ثلاثة أيام كاملة، ومن فرحتنا كنا نعيش أياما بعده في أجوائه، لم يكن يوما واحدا كما حالنا اليوم أو ينتهي بانتهاء صلاة العيد!

كنا نلبس ثلاثة أطقم جديدة، واحد لكل يوم وكلها مستوردة من بلاد «برا!» لم تكن أسواقنا المحلية قد تعرفت بعد على الصناعات العربية التي أصبحت بغلاء الأجنبي المستورد وبالطبع ليست بنفس الجودة!

كانت العيدية بالدنانير «التي إن طارت» بلغت خمسة دنانير من الشخص الواحد، ولكن الدينار في وقتها كان يفعل الأعاجيب ويشتري رأس غليص!

كان الأطفال بريئين يشترون القليل بالعيدية ويعطون الباقي للأهل فيشترون به مستلزمات لهم أو يسدون عجزا في ناحية من نواحي البيت.

في زمن معمول السوق، أصبحت العشرة دنانير لا تملأ عين الرضيع، والطفل الذي لم يحسن الكلام بعد يراها حقه ويأخذها من يد القريب الى جيبه ويرفض إعطاءها للأهل، وحتى عندما يوافق بشق الأنفس على تحويشها يظل يطلبها ليل نهار ويطمئن على وجودها، وكلما أراد شراء شيء على مدار العام يقول باستغناء: من عيديتي، وكأن العيدية تظل تتكاثر كمال قارون كلما أخذ منها زادت.

في زمن المعمول المنقوش، كنا نفطر على معلاق سواء ذبحنا أم لم نذبح، وكان الغداء في بيت الوالد في اليوم الأول وفي بيت الحمو في اليوم التالي، كنا نرى أهلنا وأقاربنا مرتين على الأقل، مرة يوم يأتون لمعايدتنا ومرة نرد لهم الزيارة، فتختلط أصوات الكبار بضحكات الصغار، وتضج البيوت والشوارع بالحياة والألوان، ولم يكن أحد يفكر بالهروب إلى أقرب مصيف أو السفر اجتنابا لزحمة العيد، كانت الزحمة محبوبة ومطلوبة.

في زمن المعمول المنقوش كنا نقبل أيدي الجد والجدة وربما الأعمام والأخوال، وفي زمن معمول السوق أصبحنا نستكبر أن نقبل حتى يدي والدينا!

في زمن المعمول المنقوش كانت فلسطين محتلة أيضا ولكن الانتفاضة كانت مشتعلة، كانت المقاومة العنوان والشهادة الحلم الأكبر، ولم يكن هناك حد للتضحية لا في المال ولا في النفس، ولكن في زمن معمول السوق أصبحنا نركع لأعدائنا ونسير في دروب الهزيمة ولو كان الأمل صفرا، ولو كانت غزة محاصرة، والقدس تتحول الى مستوطنة صهيونية، والأقصى في خطر! في زمن معمول السوق أصبح لكل شيء ثمن: العواطف والضمائر والذمم والأمانة، حتى الوطن أصبح برسم البيع والخصخصة.

وصدق الشاعر:

عيد بأي حال عدت يا عيد؟ ياعـيـد أرض الـهـدى رُوح الهـدايـة تُـهــدر

ياعـيـد..(أولـى القبلتين) هضـيـمـةٌ تُسـتـنـفـر تـدعـو بـقـايـا أُمـــةٍ فـــي خـطـوهـا تتـعـثـر

«أضحى البُغاثُ بأرضِها»-من ذُلها- يستنسِـر وَ»الصّخرةُ» الشَّمَّـاءُ أمسـت دمعـةً لا تطـفُـر

والمؤمنون جوارها شدُّوا الرِّحال وهاجـروا والمسـجـد الأقـصــى يـئـنُّ، وتـارةً يُستـعـبـر

حطّ الغزاة علـى ثـراه برجِسهِـم واستكبـروا لا عيـد والأكـبـاد فــي كـنـف الخـيـامِ تَفـطَّـر

لا عـيـد والأطـفــال أيـتــامٌ ولـمّــا يـكـبـروا لا عــيــد إلا حــيــن نثـأر، عـنـدمـا نـتـحــرَّر

تقبل الله طاعاتكم.

(السبيل 2015-07-13)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات