هل نحتاج هندسة اجتماعية؟

عندما تشكلت الدولة العربية الحديثة، كانت أغلب مجتمعاتها تقليدية محافظة، بحكم تركيبتها وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية، المُشكلة في أغلبها من القاطنين في الأرياف والبوادي، ونسبة قليلة من القاطنين في المدن الذين كانوا يشكلون نواة للحداثة. لقد كانت السلطة الدينية والعشائرية أو العائلية هي الأقوى في أغلب الدول العربية.
ولم تستطع عقود من التعليم وإدخال التكنولوجيا والتحضر (العيش) في المدينة، من نقل هذه المجتمعات من التقليد للحداثة. لا بل يمكن القول إن هذه التحولات والطريقة التي حصلت بها، أعادت إنتاج البنية الثقافية التقليدية، والتي امتدت الى السياسة والاقتصاد أيضاً. فالتحولات الديموغرافية والسكانية ساهمت في ترييف المدن، كما وصفها عالم الاجتماع العربي الأميركي د. حليم بركات.
لم يقتصر الأمر على البُعد الاجتماعي، وإنما امتد أيضاً إلى السلطة السياسية التي لم تهتم بإحداث نقلة قيمية اجتماعية تواكب التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، لا بل وارتدت إلى الأطر التقليدية، وعملت على محاباتها، من أجل المحافظة على السلطة السياسية ومصالحها الاقتصادية. وبدرجات متفاوتة، لجأت السلطة السياسية عموما للطائفة والمؤسسة الدينية والعشيرة، للمحافظة على المكتسبات والمصالح، وحاربت القوى المدنية (المجتمع المدني) والأحزاب السياسية التي تشكل الركيزة الأهم في الدولة الحديثة.
النتيجة الحتمية كانت تغوّل الأطر التقليدية على الدولة والمجتمع في آن واحد، بعدما انكشفت السلطة السياسية أمام المجتمع، بسبب الفساد والمحسوبية، ففقدت الدولة هيبتها أمام المجتمع وضعفت سيادة القانون.
لم يعد للدساتير العربية والقوانين العديدة أي أهمية في علاقة الدولة مع المجتمع والناس مع بعضهم بعضا. ولم تعد السلطة السياسية في أغلب البلدان العربية قادرة على تطبيق القوانين والاحتكام للدستور؛ لأنها كانت أول من يخترق هذه القوانين، ولا يحترم الدساتير التي وضعتها، وتحولت العديد من الدول العربية الى دول فاشلة أو شبه فاشلة.
لقد كشف "الربيع العربي" والصراعات الأهلية عن هشاشة الدولة والمجتمع في آن واحد. فقد كانت وما تزال مشاهد الاقتتال الداخلي على أسس طائفية أو عرقية وحتى قبلية، صادمة للمواطن العربي، وكشفت هذه التحولات مدى الكراهية والحقد والقسوة في التعامل مع الآخر، الذي قد يكون جاراً أو مواطناً في الدولة الواحدة.
الاختلافات والخلافات والتعصب موجودة في المجتمعات كافة، حتى المتقدمة منها. لكن هناك دولة قوية بقوانينها لا تسمح للأفراد والجماعات بأخذ الأمور على عاتقهم، ولا ببث خطاب الحقد والكراهية والتعدي على حقوق الآخرين التي هي في الأساس تعدٍ على الدولة وقوانينها.
لقد باتت الهندسة الاجتماعية وقيادة التوجه القيمي للمجتمع ضرورة حتمية؛ لأن التجارب العالمية أثبتت أنه لا يمكن الاعتماد على التطور الطبيعي لهذه القيم، لأن هناك أطرافاً اجتماعية لها مصلحة وفائدة في سيادة القيم التقليدية التي لم تعد هناك بُنى اجتماعية تحملها.
والهندسة الاجتماعية المطلوبة هي ترسيخ قيم العدالة والتسامح واحترام الآخر والحرية المسؤولة التي يتم تكريسها بالقانون. ولكن إذا لم تعد القوانين كافية، فإن الحاجة تغدو ماسة إلى تدخل قانوني من نوع آخر. مثال ذلك ما قامت به قبل أيام دولة الإمارات المتحدة، بإصدار تشريعات وقوانين تجرّم التمييز وخطاب الكراهية بأشكالها كافة، سواءً كان ذلك على أساس العرق أو الدين أو الخلفية الاجتماعية أو استغلال التقاليد الاجتماعية أو غيرها. وهذا التشريع يعد خطوة مهمة ومتقدمة في المحافظة على التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي والتأسيس لقيم اجتماعية موازية ومنسجمة مع الدساتير والقوانين التي تؤكد على المساواة والعدالة والمواطنة واحترام الآخر وغيرها.
إنها خطوة جديرة بالمناقشة والتبني في أغلب الدول العربية، ليس فقط لوقف التدهور القيمي الذي نعيش، بل أيضاً للتأسيس لمجتمع حديث يحتضن أبناءه كافة، بكل خلفياتهم الدينية والعرقية والاجتماعية.
(الغد 2015-07-23)