من فاقك خلقا فاقك دينا

حتى اليوم، ما نزال نعيش في صفين، ما نزال نتحدث بالجاهلية الأولى، وبالتقسيم الأول، ما نزال نبحث عن موالين لعلي، وموالين لمعاوية، ما نزال بعد كل هذا الوقت نريد العيش قبل 1400 عام، نرفض التطور والحداثة والمعاصرة، والرأي الآخر، ونشتم من خالفنا الرأي والفكر والمعتقد.
ما نزال نبحث عن معالجة مواضيعنا وقصصنا الحالية، ومشاكلنا الآنية من أفواه رجال سابقين، قالوا واجتهدوا، أصابوا واخطأوا، من دون أن يكون لنا حق في التفكير أو النقاش أو التأني والتبصر.
ما نزال نتغنى بتواريخ غابرة وسنين مضت، من دون أن نعرف ان فيها من الأسود الحالك أكثر من الأبيض، ومن الدم القاني أكثر من خضرة الحياة، ومن القتل والفرقة، أكثر من الوحدة والألفة والتوافق.
ما نزال نرفض رؤية حقيقة واقعنا، الذي فعلت به صفين ما فعلت، لا نريد أن نعرف أن زماننا الغابر لم يختلف كثيرا عن واقعنا الحالي، ولم نكن بحال أفضل سابقا، وإن مرت فترات شهدت حالات نهوض لم تدم طويلا.
ما يزال سوادنا يعتقد ان ما يقوله خطيب المنبر، الذي يقرأ خطبة جاهزة، وما قاله مفكر سجين يخطئ ويصيب، كلام مقدس يتوجب الأخذ به، من دون ان نترك للعقل حيزا للتفكير، نستكين للتلقين، ونقدس ما نسمعه، من دون أن نفكر في حقيقة ما قيل، وان كان واقعا أو إشاعة، صحا أم خطأ، عادة أم فكرا.
ما يزال بعضنا -وهم كثير- يتحدثون عن الحرية والديمقراطية، وفي حقيقتهم يضيقون بالرأي الآخر، يرفضون كل من يختلف معهم، يلجأون للسب والقذف بأبشع الألفاظ، التي يعف عنها اللسان، يملأون العالم الافتراضي، يفرغون شحنات شتمهم هناك، حيث لا احد يعرفهم، ولا أحد يناقش، يكتبون ما تيسر لهم من معرفة سطحية، يستحضرون مصطلحات سوقية، ينهالون بها على كل من يخالفهم، يريدون ليّ عنق التاريخ والواقع، والعودة بنا الى صفين وما خلفته.
لكل الذين يشتمون من دون أن يعرفوا، لأولئك نقول إنه: جلس عجوز حكيم على ضفة نهر، وفجأة لمح قطاً وقع في الماء، وأخذ القط يتخبط؛ محاولاً أن ينقذ نفسه من الغرق، قرر الرجل أن ينقذه؛ مدّ له يده، فخمشه القط، سحب الرجل يده صارخاً من شدّة الألم، ولكن لم تمض سوى دقيقة واحدة، حتى مدّ يده ثانية لينقذه، فخربشه القط، سحب يده مرة أخرى صارخاً من شدة الألم، وبعد دقيقة راح يحاول للمرة الثالثة! على مقربة منه كان يجلس رجل آخر، ويراقب ما يحدث. فصرخ الرجل: أيها الحكيم، لم تتعظ من المرة الأولى، ولا من الثانية، وها أنت تحاول إنقاذه للمرة الثالثة؟ لم يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل، وظل يحاول حتى نجح في إنقاذ القط، ثم مشى الحكيم باتجاه ذلك الرجل، وربت على كتفه قائلاً: يا بني... من طبع القط أن يخمش، لأنه لا يعرف ولا يعلم، ومن طبعي أنا أن أُحب وأعطف؛ فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يتغلب على طبعي؟! يا بني: عامل الناس بطبعك، لا بطبعهم، مهما كانوا ومهما تعددت تصرفاتهم، التي تجرحك وتؤلمك في بعض الأحيان، ولا تأبه لتلك الأصوات التي تعتلي، طالبة منك أن تترك صفاتك الحسنة، لمجرد أن الطرف الآخر لا يستحق تصرفك النبيل، يقول العلماء: الدين كله خُلق، فمن فاقك في الخلق فقد فاقك في الدين.
لأولئك الذين يعيشون ويلات صفين حتى اليوم، الذين أجروا عقولهم لرجال هم مثلهم، وتاهوا في صحراء التيه العميق، يرددون ما يشاهدون على قنوات التلفاز، نقول لهم ما قاله الحكيم للرجل: "من فاقك في الخلق فاقك في الدين"، وكفى.
(الغد 2015-08-19)