طفل البحر...

صرنا نرمي صغارنا خارج البيت، نلقيهم في اليمّ، ملفوفين بملابس تصدقت بها علينا الامم المتحدة، المتحدة ضدنا برعاية الولايات المتحدة، بيد تقتلنا وبالاخرى تحيينا ثم تقتلنا لنموت مرتين في زمن عربي الكل فيه موتى!! .لم يعد الجبابرة يخرّون ساجدين لصغير منا بلغ الفطام .فقد جف الحليب في اثداء الامهات الهاربات من الموت الى الموت في مخيمات اللجوء . وصارت حدود الدول مراكز نتسول منها بطاقة حياة، والبحر ملاذاً لمن جف في حلقه ماء الاوطان . صورة الطفل السوري الغريق صفعت ضمائرنا، داست كرامتنا، صحّت ما مات فينا من احساس، وما اكثره من موت . ضاقت به الارض فهرب الى البحر الذي ابتلعه وتجشأه في وجوهنا التي عليها قترة . كان الموج اكثر حنانا منا .حمله بين ذراعيه الى الشط . سجّاه على جنبه الايمن، ادار الطفل وجهه عنا الى الرمل، الرمل اكرم منا، اطهر من لحانا التي عشعش فيها الذل . يا بُني، لقد اسلمت روحك في بحرالغرباء .لم يعد في ارضك العربية مكاناً يليق ببراءتك . الكل يتآمر على الكل، والكل عدو الكل، لم يعد « انا واخي على ابن عمي وانا وابن عمي على الغريب « . الغريب صار الآمر الناهي والكل عبيد .يأتمرون بأمر صديق عدوهم الذي هو -ايضا- عدوهم . هل لم نعد نحسن قراء الامثال ولا نميز بين لون الدم ولون الحبر الذي كتب به اجدادنا تاريخا مجيدا من مقاومة الاستعمار ودحر الاحتلال ؟! انه الزلزال الذي ضرب الامة من محيطها الى خليجها، من غنيها الى فقيرها ومن حكامها الى محكوميها . ان من حرض على ما سمي بالثورات على انظمة حاكمة هو نفسه الذي كان يدعم تلك الانظمة، وهو نفسه من اوجد تعبير « الفوضى المنظمة « وهو تعبير مرادف لمعنى الفتنة، وها نحن نعيش الفوضى غير المنظمة التي ادت بنا الى الاقتتال على اللاشيء، والذهاب الى المجهول لدينا، المعلوم لمن خططوا للمؤامرة منذ بسطة البوعزيزي الى ذاك الطفل الذي ابتلعه البحر، وكم من اطفال ونساء و رجال ابتلعهم لكن الكاميرا كانت بعيدة لم تر جثثهم المنتفخة وافواههم الفاغرة واياديهم التي تجمدت في طلب الغوث من المنافي . يا بُني، «ايلان «،ها هو ابوك يناشد العالم وقف المجازر ضد الشعب السوري ويحكي بمرارة عن الذين يرحلون عن سوريا « لماذا يهاجرون الى اوروبا، بلدنا اجمل من اوروبا»، هكذا تكلم وهم يدفنون جثمانك في بلدتك «عين العرب»، لكن صورتك التي هزت العالم وانت تدفن وجهك في حضن البحر ستبقى بصمة عار في عين العرب الى الابد . ها هي القارة العجوز توافق على استقبال نحو ثلاثة ملايين شاب سوري، كما يكتب صديق سوري معارض ومنشق مقيم في اسطنبول، وها هي العواطف الأوروبية تتفجر فجأة بالتوازي مع إعادة إنتاج القمامة وتفريغ سوريا وفق اعتبارات شرق أوسطية وديموغرافية...تستدعي البكاء وعودة روح الثورة والوطنية وسوريا الواحدة الحرة المحررة، وليس الفرح والارتماء بأحضان اليورو والشقراوات !!
(الدستور 2015-09-05)