أولوية استعادة الثقة

ثمة انهيار للثقة في عدد من الدول العربية، ينذر بتفكك اقتصادي يهدد الأسس الأولى للمعيشة والتعايش، عقب خلل قيمي أطل برأسه وتفشى على شكل أزمات لا حصر لها من حولنا. ويتفق منظرو الاقتصاد حيال رمزية الثقة والمبادئ والأخلاق، ودورها الكبير في التأسيس للتنمية والحياة وتحسين شروط معيشة الإنسان.
غاب عامل الثقة بشكل جزئي عن شبكة علاقات الشعوب العربية بالنخب والمؤسسات والحكومات، وحتى في القطاع الخاص، عموما. وبعد احتجاجات اتخذت أشكالا دامية في مجملها خلال السنوات الماضية، أمست الثقة خيالا حالما لا مكان له على الأرض. بل إن الواقع العربي بتفاصيله المؤلمة اليوم استدعى هروبا إلى قارات أخرى بحثا عن حلول.
بمن سيثق اللاجئ السوري الذي ركب البحر هربا من القتل في بلاده، ووصل إلى شواطئ لا ترغب في استقباله؟ وأي خراب للثقة والأخلاق بعد تدويل مسألة إيجاد ملاذات آمنة للعائلات الثكلى؟ وحال العراقي لا يقل قسوة عن حال السوري؛ فقد مزقه العنف والتطرف والاحتلال، وحوّله إلى باحث عن فرصة لجوء لا تأتي في معظم الأحيان. وكذلك الأمر بالنسبة لليمني والليبي والمصري وغيرهم، من عرب فروا إلى عوالم بعيدة بحثا عن أفق جديد.
السؤال الأكثر خطورة في تقديري هو: إلى ما سيؤول جيل عربي لم يتعلم شيئا منذ أربع سنوات في اليمن وسورية والعراق وليبيا، أو تعلم النزر اليسير تحت أصوات الرصاص؟
وإذا كان هذا الجيل قد أمسى أميا، بسبب غياب فرصة التعليم عقب نزوح ولجوء ومرارات غير منتهية، فإن زرع الثقة سيكون ضربا من المستحيل. ولا ينفع هنا حديث القومية والوطنية والهوية الجمعية، إذ سيكون هذا الجيل في حالة عداء مع كل ما يحيط به، وخطرا محدقا أينما ارتحل.
ذاك في دول عربية تشهد أوضاعا ومواجهات دامية. أما في الدول التي تتحرك ضمن هوامش استقرار نسبية، فإن أزمة الثقة بالغة وعميقة أيضا. إذ تكشف استطلاعات الرأي في أكثر من دولة عدم ثقة المواطن بالنخبة ومؤسسات الاقتصاد العامة والخاصة وكذلك بالنسبة للبرلمانات. كما ثمة تشكيك بين المستثمر والحكومة والعكس صحيح.
وقد يبدو للبعض أن الحديث عن انهيار الثقة ترف، لكن المسألة مفصلية، فلا مكان للنجاح أو التكيف إلا بزرع بذور الثقة والمصداقية من جديد. ولعل العبث الذي يتصاعد من حولنا وبيننا على شكل غرائزية وعنصرية وطائفية في مواقع التواصل الاجتماعي، يدعونا إلى التفكير مجددا بالثقة والتعايش، بحثا عن إجابات لأسئلة المستقبل.
مرعب أن ينتظر اليمني والسوري والعراقي والليبي والمصري وغيرهم حلولا لأزماتهم الكبيرة والصغيرة من الخارج، بعد أن خذلهم الداخل بكل ما فيه من هوان واستبداد.
(الغد 2015-09-12)