حكاية تلميذ وأستاذ

ما سأرويه تاليا حصل أمام ناظري، لا زيادة فيه ولا نقصان، سأرويه لأنه واقعة تتحدث عن وفاء تلميذ لأستاذ، وقد خطرت على بالي بعد أن زادت في الفترة الاخيرة حالات التعرض بالضرب لعاملين في القطاع التعليمي، ومنهم مدرسون من قبل طلبة وأولياء أمور، وهو ما أثار بي خوفا على جيل ناشئ، بات يتعامل مع الأمور من خلال مفاهيم مغلوطة، وأفكار لا تمت لواقعنا بصلة.
في الأفراح عندنا وعند غيرنا، يقف أهل العريس في استقبال المدعوين، والسلام عليهم والترحيب بهم، وإجلاسهم في أماكنهم والسهر على راحتهم، وشاءت الصدف ان يكون بجانبي خالي (الأستاذ جابر منسي أبوعواد)، وهو الذي عمل في سلك التربية والتعليم ردحا طويلا من الزمن، فتقلب على مدارس المملكة، أستاذا وموجها ومديرا.
فجأة جاء مباركون، وقفنا في استقبالهم، وعندما وصل أحدهم لعندنا، لمحت عوارضه وقد غطاها المشيب، قبل أن يصل لي صافح الأستاذ وأمسك يده وقبلها، من دون أن يستطيع خالي الأستاذ الحيلولة بينه وبين تقبيل يده، وقد فأجاه الموقف، وربما صدمه.
انتصب الرجل واقفا فقال، موجها حديثه للأستاذ "معك حق أن لا تعرفني، ولكن من واجبي أن أعرفك، فأنت المدرس الأول لي، ولك ألف فضل علي في تهذيبي وتربيتي وإصلاح حالي، وكلما وجدتك فإنني سأقوم بتقبيل يدك"، قال له درستني قبل ما يقرب من 15 عاما وأكثر، ولن أنساك ما حييت.
ما حصل كان مؤثرا بالنسبة لي وبالنسبة لخالي الأستاذ أيضا، الذي بدا متأثرا بما حصل، فاختنقت العبرات في نفسه، ربما بسبب فخره، بأنه أثر في بعض الناس، وأن هناك من يحتفظ له بهذا الفضل، ويتحدث عنه، وربما دارت في مخيلته سنين وسنين، ورجعت به الذاكرة لأيام زمان، فاستذكر تدريس زمان، وتدريس اليوم، وخاصة مع ما يجري من اعتداءات متواصلة لا تتوقف على الكادر التعليمي.
المهم، فإن التأثر كان واضحا على الرجل المعلم، والفرحة كانت بادية على الرجل التلميذ، فخلال ما يقرب من دقائق معدودة كان التلميذ يروي قصصا وحكايات، لتذكير أستاذه به، وما أبهرني أنه كان يحتفظ في ذاكرته بذكريات صغيرة كانت لها علامات وذكريات لديه.
ما حصل كنت أتابعه عن كثب، وأثر بي أيما تأثير، وبعد أن ذهب كل الى حيه، واستقر الأستاذ في كرسيه لاستقبال مدعوين جدد، جالت بي أفكار لا تنتهي، وأول ما خطر لي ما يجري اليوم في مدارسنا من اعتداءات متواصلة على القطاع التعليمي، من قبل تلاميذ حينا، وأولياء أمورهم حينا! والحال التي وصلنا إليها اليوم، وفي المخيلة ما حصل أمام ناظري من احترام تلميذ للأستاذ.
آه يا زمن ما أصعبك، ما أصعب أن يكون المعلم عرضة للضرب، من قبل من يعلمهم، القصة ليست لها علاقة بالبحث في سبب الضرب، والتفكير في الحق على من، فالفكرة من أساسها مرفوضة، وشاذة وخارجة عن قيم مجتمعنا وعاداته، والسكوت عنها ستكون له تأثيرات سلبية على جيل ناشئ، ستنعكس عنفا متزايدا في الجامعات، وعنفا آخر في الملاعب، وغيرها من الأماكن، التي يوجد فيها اختلاف فكري مثلا، أو اختلاف في وجهات النظر.
الدولة بكل مؤسساتها معنية بأن تقف وقفة رجل واحد، في وجه اي اعتداءات على القطاع التعليمي، وان تتخذ إجراءات رادعة في هذا الصدد، وان تخرج من اطار المتفرج على ما يجري إلى إطار أكثر وضوحا وفاعلية.
علينا أن نعيد للعملية التعليمية وضعها الطبيعي، ودورها الطليعي، وأن يكون المعلم حاضرا فينا، وأن نستعيد معه وبه دوره، الذي تربينا عليه سابقا، والذي كان المعلم عنصرا أساسيا في حياتنا اليومية، حيث كنا نردد مع شوقي "قم للمعلم وفه التبجيلا".
(الغد 2015-09-14)