عرفة والعيد وتجليات الوحدة رغم الجراح والتشتت

بدأت جماهير الأمة منذ فجر اليوم، يوم عرفة، مسلسل التكبير الذي ينتهي عصر رابع أيام التشريق، في مشاركة واقعية للحجيج في تكبيرهم وتلبيتهم هناك في المشاعر المقدسة. وفيما يستقبل الكثيرون اليوم صائمين عملاً بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن الطقوس الأخرى من تكبير وتقديم للأضاحي خلال الأيام القادمة إنما هي تعبير عن أن الأمة كلها في رحلة حج واحدة إلى الله عز وجل، حج يؤكد كلمة التوحيد ويؤكد معنى الأمة الواحدة رغم واقع التشرذم الذي يحكمها ويمعن في تشتيت جهودها وبعثرة طاقاتها. إنها من أيام الله التي لا يحسّ بها غير المقبلين عليه، ومن خشعت قلوبهم لذكره ولما أنزل من الحق. أولئك الذين صدحت حناجرهم بالتكبير، والذين هوت أفئدتهم إلى مكة والبيت العتيق، في ذات الوقت الذي تهوي فيه قلوبهم إلى حيث جراح المسلمين في كل مكان. في هذا اليوم، سنكون مع الحجيج صوتاً وصورة، ومن روائع الزمن الجديد أن يعيش المؤمنون المشهد بعيونهم وآذانهم من خلال الفضائيات ليكتمل مشهد الوحدة الروحية بين المسلمين في كل مكان. إنه طقس روحي بالغ الروعة يعرفه المؤمنون ويحسّون به، لاسيما أولئك الذين سبق أن عاشوا تلك المشاعر حجاجاً أو معتمرين. ما يقرب من ثلاثة ملايين حاج يتحركون في إيقاع واحد من شعيرة إلى شعيرة، يمثلون أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين. ولو كان المكان يتسع والظروف تسمح لكان العدد بعشرات الملايين، لكن ما يجري هو تجسيد لوحدة الأمة، وصهر هذا الدين العظيم لكل الأعراق والألوان. مشهد فريد لا يعرف له الكون مثيلاً على الإطلاق، فأين هو المكان وأين هي المناسبة التي تحشد جمعاً كهذا في العالم أجمع؟! إنه مشهد الأمة، ووحدتها وقوتها مهما قيل في ضعفها وواقع شرذمتها، ذلك أننا إزاء وحدة حقيقية تلتقي في الملمات وعلى القضايا الكبرى، وهؤلاء الذين يشكّون في قدرة الأمة على استعادة قوتها ووحدتها، عليهم أن يرحلوا بأبصارهم وعقولهم إن لم تسعفهم القلوب إلى مكة في هذه الأيام المباركة ليروا ذلك الحشد الذي يمثل الأمة بأسرها، وكيف يتوحد في مشهد لا أحلى ولا أروع. نكتب عن هذه المعاني لأننا نعلم أن هناك من يجدف في الاتجاه المعاكس، مبشراً بهزيمة الأمة وضعفها وعجزها، مستنداً إلى واقع بائس في بعض مفرداته بسبب قوة من يمعنون في مطاردة المسلمين والحيلولة دون نهوضهم من جديد، الأمر الذي أخذ سينقلب شيئاً فشيئاً ليبشر بزمن آخر، يتراجع فيه المتغطرسون ويبدأ المستضعفون رحلة النهوض من جديد. والحال أن هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، والتي نتابعها منذ زمن طويل، إنما هي تعبير ضمني عن حقيقة مقاومتهم وخوف الأعداء من قدرتهم على النهوض من جديد، وإلا فهل يمكن الحديث عن ضرب في جسد ميت؟! كلا بالتأكيد وهذه المقاومة التي تبديها الأمة في مواجهة الغزاة والطغاة، وفي مواجهة إرادة الإلغاء والتهميش هي تأكيد على ذلك. غدا أيضا في العيد، نعيش الألم مع إخواننا الذين يدفعون الدم والتضحيات في مواجهة الغزاة والطغاة. نعيش الجرح مع أسر الشهداء وعشرات الآلاف من الأسرى في فلسطين وسوريا ودول بلا عدد تطارد الرجال الذين يريدون العزة لهذه الأمة تحت راية دينها. لكن ذلك لا يدفعنا إلى اليأس، بقدر ما يمنحنا الأمل، لأن هؤلاء ومن يسيرون على دربهم يؤكدون أن الأمة تقاوم ولا تستسلم. الله أكبر، الله أكبر، وكل عام وأنتم بألف خير.
(الدستور 2015-09-23)