شرق أوسط «جديد».. ليس أميركياً إسرائيلياً بالتأكيد!

عشرون عاماً انقضت على هرطقة شمعون بيرس وأوهامه بقدرة اسرائيل على قيادة المنطقة وفرض جدول أعمالها.. عليها، بعد أن نجح التحالف الثلاثيني في جلب العرب خانعين الى مؤتمر مدريد، إثر حرب عاصفة الصحراء التي قال عنها جورج بوش الاب: ان اميركا قد دفنت «عار» فيتنام في الصحراء العربية، وبعد أن أُخرج العراق من الكويت وأجبر من اراد «هو».. من العرب ان يأتوا الى مدريد، كي يؤسسوا لمرحلة جديدة، تأخذ في الاعتبار الوقائع الميدانية وموازين القوى وخصوصاً ما آل اليه النظام الدولي الجديد الذي كان-وقتذاك-قد أخذ بالتجسد والبروز، بقرب انهيار الاتحاد السوفياتي وتحقيق اميركا (اقرأ الرأسمالية كما قال أرباب نظرية نهاية التاريخ) نصراً في حربها على الاشتراكية ولم تكن «رعاية» موسكو لمؤتمر مدريد بالشراكة مع واشنطن، اكثر من مشهد رمزي لا يُغير من الوقائع شيئاً وإن كان بدا في لحظة ما وكأنه تبعية ودليل ضعف «سوفياتي», اكثر منه فعلاً مُؤثراً او قدرة ملموسة يتوفر عليهاتمنحه إمكانية الخروج على ما ارادت الولايات المتحدة «فرضه», وهو اغتنام فرصة الهزيمة العربية الموصوفة وما سبقها من انقسامات وتجاذبات وتخوين ومزايدات، لاملاء شروط «التسوية « التي حاول اسحق شامير عرقلتها رغم كل ما فيها من معاني الاستسلام العربي والخنوع الفلسطيني والهيمنة الاميركية المُطلقة على المُدخلات والمُخرجات والقرارات المكتوبة... مُسبقاً.
ما علينا..
كان لشمعون بيرس «نظريته» وفلسفته التي سادت وما تزال في اسرائيل، والتي تقول ان بمقدور «العقل» اليهودي والمال العربي والايدي العاملة العربية رخيصة الاجر, أن تصنع معجزة اقتصادية وتنموية بل ورخاء في المنطقة، تسهم في تحقيق «السلام» وتنهي الحروب وتؤسس بالتالي لقيادة اسرائيلية للمنطقة.. وقد سرّعت من ذلك معاهدات السلام (واتفاق اوسلو) التي وقعتها تل ابيب مع دول عربية... في اظهار حماسته، فطرح مشروعه الحالم ولكن ايضا الخبيث تحت عنوان «شرق اوسط جديد» ينهض على اسس اقتصادية ويُسهم في تصفية القضية الفلسطينية وخصوصاً حق العودة والدولة الفلسطينية المستقلة والتي كان تضمّنها ذات يوم المشروع الثلاثي الشهير, الداعي الى ضم اسرائيل والاردن والسلطة الفلسطينية في اطار اقتصادي واحد. والذي يحاكي التجربة الاسكندنافية المعروفة بـ(البينلوكس)، لكن تسعينات القرن الماضي تجاوزته، بعد انتهاء الحرب الباردة وتفرّد الولايات المتحدة الاميركية في قيادة العالم.
لم يُكتب لهذا المشروع النجاح الى ان جاءت حرب تموز 2006 فقامت كوندليزا بإحيائه، ولكن هذه المرة بوجه سياسي فاقع، أخذ في الاعتبار الغزو الاميركي لافغانستان (2001) ثم احتلال العراق (2003) وتواجد القوات الاميركية على الحدود السورية، فضلاً عن الضوء الاخضر الاميركي لحكومة ايهود اولمرت بتدمير لبنان وشطب حزب الله واستدراج سورية الى حرب تضع حداً لمحور الشرالذي تُمثله دمشق وطهران والضاحية الجنوبية، وتبددت أوهام الادارة الاميركية وكانت نتائج الحرب هزيمة مدوية وفشلاً ذريعاً ليس فقط لاسرائيل وجيشها الذي لا يُقهر، بل وايضاً صفعة قاسية للمحافظين الجدد في البيت الابيض, الذين كانوا يتلقون ضربات المقاومة العراقية الباسلة ويدفعون ثمنها بمزيد من جنودهم القتلى وخسائرهم الباهظة على الارض.
ليس مرحلة ما وصف بالربيع العربي»هل يصح الان تسميتها بالرعب العربي؟» سوى محطة اخرى لانعاش الاوهام الاميركية الاسرائيلية بامكانية نشر الفوضى واعادة رسم خرائط المنطقة وفق أسس طائفية ومذهبية وعرقية على النحو الذي شهدته «ساحات» عربية عديدة، كانت الحرب على سوريا الاكثر وضوحاً في دمويتها وعنفها ووحشيتها والتواطؤ القذر الذي تم بين عواصم اقليمية ودولية, لمواصلة الحرب الكونية عليها، ما أسهم-ضمن امور اخرى-في تهديد مصالح وأمن دول عديدة رأت في هذا الدعم المشبوه وغير المسبوق للجماعات الارهابية والتكفيرية مقدمة لتكرار السيناريو السوري في اكثر من بلد وبخاصة في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية (السوفياتية السابقة) التي تُشكل فضاء حيوياً لروسيا وتربطها بها صلات قوية اقتصادية وعسكرية وتجارية.
الى اين من هنا؟
الانخراط الروسي في الأزمة السورية، يؤسس لمرحلة جديدة اكثر خطورة لكنه اكثر وضوحاً بمعنى فرض قواعد جديدة للعبة استعمارية قديمة آن لها ان تنتهي، ما يعني التأسيس لنظام دولي جديد ينهض على احترام القانون الدولي وسيادة الدول وحق الشعوب في اختيار قادتها والنظام الذي تريده.
سقط مشروع الشرق الاوسط الجديد بـ(نُسَخهِ) المختلفة, وحان الوقت لمشروع شرق اوسطي جديد ومختلف, لا يغرف من «الصحن» الاميركي الاسرائيلي ولا يخضع لإملآتهما.امكانية النجاح واردة بل قوية رغم صعوبة المهمة,لكن المشروع الاستعماري الجديد/القديم بدأ يلفظ انفاسه الاخيرة.
(الرأي 2015-09-29)