دقيقة وسبع ثوانٍ للنقاش

في دراسة للباحثين الاردنيين الدكتور أسامة بطاينة وخالد العزازي عن التفكير النقدي عام ٢٠٠٩ تبين أن مدة النقاش بين الأساتذة والطلاب لكل ساعة دراسية لا تعدو في المعدل أكثر من دقيقة وسبع ثوان لكل ساعة دراسية، وذلك على مستوى التعليم الثانوي! واستنتج الباحثان تأثير ذلك على تنمية المهارات التفكيرية العليا كالاستنباط والتحليل والتقييم التي تتراجع لصالح المهارات التفكيرية الدنيا كالحفظ والاستظهار وهو النمط السائد في مدارسنا ومعاهدنا العلمية حتى على مستوى الدراسات العليا الذي يعتمد على التلقين وإعادة المحفوظ في الامتحانات، وكلما كان الطالب أقرب بالكلمة والحرف لما قاله الاستاذ ارتفعت العلامة! والغريب ان يكون هذا حال التدريس بالرغم من مراجعة المناهج الدراسية وتدريب المعلمين واطلاق الرؤى والتوجيهات بإدماج الاساليب الحديثة في التعليم التي تبتعد عن كون المدرس مصدر المعلومة فقط والطالب مستودعها وتجعل من الطالب محور العملية التعليمية! فأين الخلل الذي يؤدي الى ظهور هذه النسبة المضحكة المبكية التي بالكاد تعني ان الطالب يفتح فمه للتنفس ناهيك عن الكلام والنقاش؟! واذا لم يتدرب الطلاب على النقاش في الاوضاع المثالية في المدارس فهل من المتوقع ان تنمو هذه المهارة بعد ذلك؟!
لا بد ان لتربيتنا القمعية احيانا -التي تتلبس بلباس الاحترام خطئا- دخل في ذلك، فنحن مقموعون منذ الصغر، بحق او بدون حق، وليس لنا حق الرد او النقاش او الاستفسار، بل جل ما يريده الكبار منا الطاعة وكلمة «حاضر» وغير ذلك يعتبر الطفل مشكلجيا غلباويا ومصدر ازعاج يراد التخلص منه بوسائل إلهائية باللعب والتلفاز وغيرها او بوسائل سلمية بالاغراء بالكماليات او وسيلة العصا لمن عصى.
«كثيرة الحركة والكلام» كان الوصف الذي رافق شهاداتي حتى الصف السادس مع كلمة مجتهدة وأتمنى لها دوام التوفيق والنجاح! أما جدتي رحمها الله التي كانت تعاني من ازعاجي وكوني قد بلعت راديو فقد كانت تمني نفسها بالمثل «مجنونة البنات عاقلة النسوان» وان هذه الفترة ستمر! فهل كن لا يعرفن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «عرام الصبي نجابة» اي حركته وشدته وازعاجه من دلالات الذكاء والفطنة، والقول «عرام الصبي في صغره زياده في عقله في كبره»، وقد اثبت الدراسات النفسية ان هذه الصفات متلازمة مع العقل النشط الذي لا يهدأ حتى في فترات النوم بل يكمل دائرة التفكير بشكل لا واعٍ يظهر في الأحلام، ألم يكن بالامكان توجيه كثرة الكلام هذه للخطابة والاذاعة والشعر بدل ان تعتبر نقيصة مذمومة؟!
ان بيوتنا تعاني من الخرس على كافة المستويات في الوقت الذي يعول على الاسرة ان تكون المحضن الاول لاطلاق الشخصية المتزنة التي تفكر وتناقش ضمن حدود الأدب والاحترام فلقد كانت حجة أبينا ابراهيم مع أبيه غاية في القوة ولم تنس مسحة الرحمة والاحترام
أما مدارسنا وهي التي يعول عليها رقع خرق البيوت فليست أحسن حالا باثبات الدراسة السابقة ولكن ماذا نرتجي من معلم أثقلته هموم الحياة وشكاوى العائلة حتى أغلقت كل أجهزة الاستقبال لديه، والمدرسة لبعضهم ليست اكثر من توقيع الحضور ودفتر تحضير لرفع العتب وراتب في اخر الشهر لا يكفل حياة كريمة، ان هذه الاسباب خارجية ولكن تؤثر في صميم العطاء العلمي والتربوي واداء المدرس داخل الصف وتلقي الطلاب؟! ولو قلنا ان الصف والاعداد وزخم المنهاج التعليمي لا يسمح بالنقاش فماذا عن النشاطات المرافقة؟! ماذا عن البرلمانات الطلابية؟! ام هي نسخة عن البرلمانات الوطنية تختم دون ان ترفع رأسها؟! ماذا عن نشاطات خدمة المجتمع وكيف نؤمل ان يكون لدينا مواطن واع ومجتمع يحترم حرية الرأي والتعبير كحق إنساني أصيل والمسموح في المعدل للمواطن ان يفتح فمه لــ١.٧ دقيقة كل ساعة؟!
لا ريب اذن ان نرى جامعاتنا تعاقب عقابا تعسفيا كل من يفتح فمه بل ربما يتم التجني عليه وتقويل الطالب ما لم يقله لتحقيق اهداف أخرى وتربية الطلاب من خلال العقوبة بأن يغلقوا افواههم ويضعوا رؤوسهم في الكتب ويحضروا محاضراتهم دون همس ثم «يستفرغوا» ما حشاه الاستاذ في أذهانهم ليتخرجوا بشهادة مع مرتبة تقدير! ثم نتساءل لماذا لا تحصل جامعاتنا ترتيبات عليا في المقاييس العالمية لافضل الجامعات التي لا تتفوق الا بالتفكير النقدي والنقاش الذي يطلق البحث!!
الأمر جلل يظهر خوفا وعدم استقرار فاضح في المجتمع عندما يخاف من الكلمة ويستحدث لها تهما جرمية بدل الرد عليها بالحجة والبينة وهو المناخ المطلوب لصحة المجتمع الذهنية والفكرية التي تطلق طاقاته نحو التنمية والابداع فليس كل الكلام هذرمة فارغة فمن الكلام ما تصلح به الحياة وتعمر الأرض ويُخدم الناس اذا صدر عن عقل واع وقلب يقظ وانسان منتم يعرف ان الكلمة اما بناء او هدم فيضع كلماته احجار أساس في بناء أمته.
لقد كنا نسمعها نكتة ان المواطن العربي لا يفتح فمه الا عند طبيب الأسنان، واذ بالكابوس يتحول الى حقيقة في دراسة علمية مثبتة!
دقيقة وسبع ثوان هو المسموح لك للنقاش وهو تنبيه ان تزن كلامك ايضا بحيث تصل الرسالة بأفضل الطرق وأقوى الوسائل وذلك كفيل مع الايام بإيجاد ثقافة وجيل لا يسكت أبناؤه على باطل ولا يرضون تحديدا بقيد وتكون كلماتهم بلسما لشعوبهم وأوطانهم وحربا على أعدائهم.
(السبيل 2015-10-21)