أزمة النص وصراع التفسير في المحنة السورية

كانت القضية الفلسطينية برمتها ضحيّة “إسقاط” غربي لأداة التعريف “الألف واللام”، في القرار الأممي رقم 242، فإذ بالأرض الفلسطينية المعلومة تاريخا وجغرافيا ومعالم تتحوّل إلى “أراض” مجهولة الحدود ومعدومة البدايات والنهايات وكلها كانت ديباجات دولية لمأسسة عملية التقسيم وشرعنة الاحتلال والاستيطان عبر تحويل “الكلّ” الفلسطيني إلى كانتونات متشرذمة ومتشظيّة على تراب فلسطين التاريخية.
المفارقة أنّ ذات “ضحايا النصوص المركبّة” في 1967 وقعوا في نفس الإشكال عند توقيع اتفاقيات أوسلو في سبتمبر 1993 حيث عمدت إسرائيل إلى تفخيخ نصّ اتفاق “غزة – أريحا” بمصطلحات زئبقيّة على غرار عبارة “إعادة الانتشار” خلافا لـ”الانسحاب” وهي مفاهيم جعلت إسرائيل في حلّ من كلّ التزام بإخلاء كامل حدود 67، وعلى العكس سمحت لتل أبيب بمزيد من التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
اليوم لم يعد النظام الرسمي العربي ضحيّة لقراءة متسرّعة لنصوص مفخخة معنى ومبنى، وإنما صار على هامش نصوص الاتفاق حول الأزمات العربية وبات خارج أي قراءة سياسية لهذا النص أيضا. بمعنى أنّ اللاعب العربي بات ملعبا حقيقيا لمكاسرة إستراتيجية إقليمية ودوليّة ولم يعد شريكا في صياغة “النصّ” ولا جديرا بقراءة متن اتفاقيات تهمّ جغرافيا العرب.
من جنيف في 30 يونيو 2012 إلى فيينا في 30 أكتوبر 2015، كان نصّ تسوية الأزمة السورية محددا بنقاط ما يسمّى بـ”بيان جنيف1″ إلا أنّ القراءات الإقليمية والدولية للنصّ كانت متنافرة إلى حدّ التناقض.
كان التفسير الروسي والصيني والإيراني لجنيف1 أنّ هيئة الانتقال السياسي في سوريا لا تعني تغييرا على رأس سدّة السلطة في دمشق، وأنّ مصير الرئيس السوري بشار الأسد منوط بقرار شعبي متجسد في انتخابات عامة تحت إشراف دولي.
فيما كان التفسير الأميركي والفرنسي والبريطاني والتركي أنّ تشكيل هيئة الانتقال الديمقراطي التي تحوز كافة الصلاحيات التنفيذية يفضي إلى تنحي الأسد عن سدّة السلطة ومع خروجه يبدأ الحلّ السياسي في سوريا، كان مجلس الأمن ساحة لصراع التفسيرات بين القوى الإقليمية، حيث كانت مشاريع القرارات المقدمة غربيا وتركيا والفيتوات المرفوعة ضدّها دليلا على البون الشائع في تأويل “المعنى” من ذات المبنى.
وسرعان ما استحالت “الجغرافيا” السوريّة بمثابة “ميدان لتفسير البيان”، وضعت تركيا ومعها فرنسا كافة مقوماتها العسكرية والاستخباراتية لصالح فرض قراءتها السياسية لجنيف1، فيما دفعت إيران وروسيا بقطعها العسكرية وبجهودها اللوجستية لصالح إجبار المجتمع الدولي على قبول تفسيرها للنصّ الأساس.
وعلى مدى 4 سنوات كان الميدان السوري شاهدا على انكسار جزئي لهذا التفسير وانتصار نصفي لآخر في هذا المفصل الحربي أو ذاك، وعوضا عن اجتماع الغيورين من أبناء سوريا، من حكومة ومعارضة وطنية، لبلورة قراءة ثالثة لنصّ البيان تكون منبثقة من سوريا أو صياغة نصّ تأسيسيّ جديد لتسوية الأزمة، اختار الفريقان الانزواء عن فعل “تأسيس النصّ” السلمي أو التفكير التأسيسي لقراءة ثالثة تنهي “لعبة الأمم” على أرض الشام وفضّلا القبول بـ”النص” السويسريّ واختارا “التأييد” للقراءات الإقليمية غير العربية للنصّ.
فشل اجتماع فيينا الأخير هو فشل في التقريب بين التفسيرين وإقرار باستمرار “صراع القراءات” على أرض سوريا، وما الحديث عن تباين في وجهات النظر حول مصير الأسد سوى تلويح بورقة توت سياسية لإخفاء غابة التنافر بين الموقفين.
في ذات الوقت الذي يكتب فيه الفاعلون الإقليميون نصّ “دمار سوريا” على قرابين الاختلاف في التفسيرات لنص التسوية والسلام، يحبّر داعش ومن معه من تنظيمات تكفيرية نصّ الموت لجغرافيا عربية كان يسميها التاريخ والأنثروبولوجيا بـ”مهبط الوحي والرسالات” و”بالمدنية الأولى”.
(العرب اللندنية 2015-11-02)