كيري وكاميرات بلفور!

ما توقَّفنا عنده وحذَّرنا منه هو ما أتانا بكيري مؤخرًا، أو بلفور اليوم، ليحاول نصب كاميرات بلفور، أو كيري الأمس، في ساحات الحرم القدسي، بعد ثمانية وتسعين حولًا على بداية النكبة العربية في فلسطين. أما ما نؤكده فهو أن في تواصل الهبَّات النضالية الفلسطينية بمحطاتها المتوالية، من هبَّة البراق وإلى هبَّة الراهن، وما ستتلوها، ما يعبِّر، وبالدم الزكي المقاوم، عن أبدية الرفض للوعد وواعديه وموعوديه بنسخهم المختلفة وكاميراتهم المتجسسة..
لست ممن يميلون لإعطاء مرور مناسبة ما من المناسبات التاريخية بعدًا طقوسيًّا، احتفاءً أو ندبًا، وإنما مع التوقف أمام دروسها، لجهة الإفادة والمراكمة والبناء عليها في حال إيجابية دلالاتها، والاتعاظ والمراجعة وحساب الذات وتفادي الأسوأ في حالات السلب. والمؤلم هو أن الحالات الأخيرة هي الراجحة في كفة تواريخ قروننا العربية الأخيرة. قبل أيام فقط مرت علينا واحدة من هذه المناسبات، التي تتبوأ الصدارة بامتياز في هذا الصنف الأخير من هذه الحالات بالذات، لما كان لها ولا يزال من آثار كارثية لحقت بأمة بكاملها، ولعل جزءا كبيرا من راهنها المأساوي الذي تعيش هو وليد لتداعياتها، وما من شك في أن مفاعيلها سوف تلاحق أجيالًا وأجيالًا لاحقةً منها. إنه مرور ثمانية وتسعين عامًا على “وعد بلفور”، أو بالأحرى تعهُّد بريطانيا الاستعمارية بمنح يهود العالم “وطنًا قوميًّا” في فلسطين العربية، أو ما من شأنه أن يذكِّرنا بأنه بعد عامين لا أكثر سيكون مرور قرن بالتمام والكمال على قرار البدء بنكبة العرب في فلسطينهم، والتي ظلت القائمة والمستمرة على امتداده.
لسنا هنا بصدد تكرار لما ظللنا نكرره طيلة الثمانية والتسعين عامًا خلت، من مثل نعت هذه الفعلة البريطانية بمنح من لا يملك لمن لا يستحق، أو التذكير بأن الغرب الاستعماري، ممثلًا في بريطانيا العظمى في ذلك الحين، وفي الولايات المتحدة لاحقًا، وما بينهما فرنسا وسائر تفاصيله الاستعمارية، شاء، في سياق مشروعه الاستعماري المعادي للأمة العربية، التخلُّص من يهوده فافتعل لهم كيانًا زرعه في القلب منها في فلسطين، كثكنة متقدمة ذات مهمة وظيفية خادمة لاستراتيجياته في المنطقة، وجسم تفتيتي حاجز بين مشارق الأمة ومغاربها، أو آسياويها وإفريقيها… وإنه منذ ذلك الحين كان الغرب هو العرَّاب والحامي والضامن والمتكفِّل بإمداد مخلوقه بكافة وسائل الحياة والبقاء والقوة والتفوق، بل رافعه إلى حيث المعصومية والمافوق القوانين والأعراف والمواثيق الدولية المتعارف عليها، والموفِّر له امتياز عدم المساءلة على جرائمه العدوانية الممتدة بامتداد وجوده منذ إنشائه وحتى يوم زواله… كما لسنا بحاجة إلى التذكير بأن ننسخ من مثل هكذا وعد، أو تعهد، لطالما تناسلت دوليًّا، وتكررت عربيًّا، وكفاية هنا أن نشير إلى اتفاقية “كامب ديفيد”، و”وادي عربة” ومن بعدهما “أوسلو”، والأخيرة كنت كتبت عنها في حينها ما عنونته بـ”وعد بلفور فلسطيني”. ويمكن أن نزيد فنضم لما عددناه ما يطلق عليها عربها “المبادرة العربية للسلام” المرفوضة منذ أن عُرضت ممن عُرضت عليهم!
لكنه المؤلم أن نتوقف في هذه المرة بالذات أمام خفوت غير مسبوق حتى لأصداء ما كنا قد تعوَّدناه من مجرَّد مندبة سنوية لا أكثر تقام في مثل هذه المناسبة من قبل نخب عربية لم تعد اليوم القضية الفلسطينية بالنسبة لها مركزية، ووجدت في تداعيات وذيول هذا الوعد الشرير، أو التعهُّد الجريمة، على راهن الأمة ما يشغلها عن أصلها المتمثل في الإشاحة عن أبجديات الصراع وإغفال طبيعة طبيعة العدو، بل والأدهى هو أنه حتى الهبَّة الشعبية النضالية التي تتواصل الآن في كامل فلسطين المحتلة، وكل هذا القمع المتوحِّش والدم الفلسطيني الطهور المقاوم الذي يُسفك على مدار الساعة، قد بدأت أصداؤه، وليس فقط ردود الأفعال شبه المعدومة عليه أصلًا، تأخذ في الخفوت والتراجع بالنسبة لأولويات واهتمامات مثل هذه النخب، وتكفى مجرَّد التفاتة سريعة منا لمتابعة مؤشر انخفاض بورصة التغطية الإعلامية العربية لهذه الهبَّة، وتوازيًا مع مرور أيامها، دليلًا على ذلك.
وأن نتوقف لنحذِّر من أنه، إلى جانب هذا الخفوت والتراجع، هناك ما هو أخطر منهما، وهو محاولات تصوير الصراع بمجمله انطلاقًا من بعض راهنه، رغم أنه الممتد لما هو الأكثر من الثمانية والتسعين عامًا المشار إليها، أي وكأنما هو فحسب صراع على الأقصى، وذلك في تجاهل متواطئ لكون الأقصى ليس سوى جزئية من هذا الصراع لها رمزيتها الفارقة، لكنها على أهميتها تظل تفصيلًا من تفاصيله، باعتباره صراعا على الأرض والوطن والهوية، بمعنى البقاء، حيث، كما قلنا وسنظل نردد، لا يستشهد الفلسطينيون اليوم، ولا بالأمس، ولا في الغد، من أجل أمور مطلبية أو “دولة”، ولكن من أجل الأرض التي لا دولة ولا وجود لهم بدونها. كما أن صراعهم، ونيابة عن الأمة بكاملها، هو ليس مع شخص نتنياهو، أو ما يدعى باليمين الصهيوني المتطرِّف، أو المستعمرين الذين يطلق عليهم “المستوطنين”، وإنما مع كيان استعماري استيطاني إحلالي هو بكامله يمين ومستوطن وأكثر من نتنياهوي. وهو ليس صراع مع الصهيونة وحدها بكافة مظاهرها وتجلياتها، ومنها العربية والفلسطينية، وإنما الغرب الاستعماري بكامله مختصرًا في عدو الأمة العربية الأول الولايات المتحدة، مايسترو كل الشرور التي واجهتها وتواجهها سابقًا وراهنًا وإلى أمد غير منظور.
ما توقَّفنا عنده وحذَّرنا منه هو ما أتانا بكيري مؤخرًا، أو بلفور اليوم، ليحاول نصب كاميرات بلفور، أو كيري الأمس، في ساحات الحرم القدسي، بعد ثمانية وتسعين حولًا على بداية النكبة العربية في فلسطين. أما ما نؤكده فهو أن في تواصل الهبَّات النضالية الفلسطينية بمحطاتها المتوالية، من هبَّة البراق وإلى هبَّة الراهن، وما ستتلوها، ما يعبِّر، وبالدم الزكي المقاوم، عن أبدية الرفض للوعد وواعديه وموعوديه بنسخهم المختلفة وكاميراتهم المتجسسة، وإذا كانت السكاكين والمقالع تدفع الآن بعض الصهاينة للعودة من حيث أتوا، فمن سيبقى منهم لو رفدت هذه الهبَّات بالهبَّة الكبرى المفتقدة لأمة جرى تغييبها وطالت غيبوبتها؟!
(الوطن العمانية 2015-11-07)