العدالة السياسية الغائبة وخرافة مناصرة الثورات

منذ الصبا، فتنت بمواقف أبي ذر الغفاري ولا أزال، أذكر قوله لمعاوية بن أبي سفيان “أين أموال المسلمين يا معاوية”. كان السابقون إلى السلفية يحرمون أي جدل يخص التاريخ الإسلامي، ويستنكرون أسئلتنا البريئة عن موقف معاوية من الإمام علي، وتعنت عائشة في موقعة الجمل، وقتل صحابة بأيدي صحابة، ويروجون إلى أن معاوية من كتاب الوحي، ويتجاهلون أنه من الطلقاء. ولكن انبهارنا بقضية العدالة الاجتماعية أنسانا ـ في تلك السن المبكرة ـ القضية الأكثر أهمية، وهي العدالة السياسية.
الانحراف عن “العدالة السياسية”، كقيمة إنسانية، منذ حادث السقيفة، أدى إلى نزيف لن يتوقف إلى يوم يبعثون إلا إذا شاء الشعب.
يتلخص الوجه الحسن لذلك الجدل في نفي وجود نظرية سياسية للإسلام، ونسف خرافة ما يراه الواهمون “الدولة الإسلامية”، فلو أن في القرآن نصا صريحا يحدد صيغة “إسلامية” للحكم، لسارع الصحابة إلى تنفيذه، والانصراف سريعا إلى تجهيز النبي ودفنه، بدلا من تأخير ذلك من يوم الاثنين حيث توفي، إلى يوم الأربعاء، حسب روايات ابن كثير وغيره، بعد حسم جدل “إنساني” لم يخل من ترهيب وإذكاء للقبلية، للوصول إلى صيغة تقول إننا بصدد شيء من “الصراع السياسي”، وكان الولاء للأقوى، لقبيلة قريش وصوتها الأعلى عمر بن الخطاب، وقد رفض أن تؤول السلطة إلى سعد بن عبادة، ولم يحتمل أن يتقاسم الأنصار الحكم، تحت شعار “من أمير ومنكم أمير”، فقال “هيهات، لا يجمع سيفان في غمد واحد، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم.. من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدلل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في مهلكة”. نسغ من الدين والسياسة، ينعش نار العصبية الجاهلية، ويعلن الوصاية على العرب والكلام باسمهم. بذلك الانحراف غابت فكرة العدالة السياسية، وتوارت طويلا وراء تحقيق حلم العدالة الاجتماعية.
ليس من الحكمة ولا العدل محاكمة وقائع قديمة بعيدا عن سياقها التاريخي، لا الإدانة تفيد ولا الإشادة. الأهم ألا تكون معيارا يهين العقل الراشد، بعد بلوغه درجة من النضج يستغني بها عن نماذج “قياسية” لا تريح إلا الكسالى، ولا تطمئن إلا المغفلين، وكلا النوعين يرهن وعيه للماضي، لا للعبرة، وإنما كزاوية ضيقة لا تتسع لآفاق المستقبل.
وليس من الحكمة ولا العدل استسهال إدانة التاريخ الإسلامي، وتجاهل حراك السلوك والأفكار عالميا؛ فلا يستثنى أتباع دين ولا حضارة من جرائم لا تدين إلا مرتكبيها ومن يسعى إلى تبريرها من الأجيال التالية. وقد حفل التاريخ الإسلامي بنماذج مشرقة في تبني الدعوة إلى العدالة الاجتماعية.
متمردون لوجه الحق، وثوار حالمون بالعدالة يرون أن المال مال الله، وحكام متقشفون قساة على أنفسهم وعلى الشعب، جسدوا نظرية “المستبد العادل” الملائم لمرحلة، غير الصالحة للمستقبل، فلا يستقيم عدل في ظل استبداد إلا إذا كان مشروطا أو منقوصا. وإذا كان المستبد العادل في تحقيقه العدل الاجتماعي يتجاهل العدالة السياسية، فلماذا لم تترسخ الدعوة إلى العدالة السياسية، بتداول السلطة وفقا لمبدأ التكافؤ والأهلية، تيارا في التاريخ العربي.
الديمقراطية الغائبة كانت ستعفي جمال عبدالناصر من الهزيمة عام 1967، والعدالة السياسية كانت ستحول دون السقوط المتكرر لبغداد، وفاجعة الاختفاء لأي وجود لجيش عراقي صباح الأربعاء 9 أبريل 2003 تفسرها سخرية هولاكو من الخليفة العباسي المستعصم الذي أرشد الغازي إلى خزائن المال، وحوض مملوء بالذهب وسط القصر. لكن هولاكو أمر بحرمان المستعصم من الطعام حتى شعر بالجوع، فقدم إليه هولاكو طبقا مملوءا بالذهب. قال الخليفة “كيف يمكن أن آكل الذهب؟”، فرد عليه هولاكو “ما دمت تعرف أن الذهب لا يؤكل، فلم احتفظت به، ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير. ولماذا لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري”، فقال الخليفة “هكذا كان تقدير الله”، فرد عليه هولاكو: “وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله”، وقتل الخليفة.
قتل المستعصم، ثم بعث وتناسل بنين وحفدة يحتكرون الثروة والسلطة، ولكنهم يعجزون عن الدفاع عن عروشهم، ولا يضمن حماية العرش إلا التنافس الحر عليه، وتناوب الوصول إليه ثم مغادرته، من دون خوف انتقام الحاكم الحالي من السابق، ولا اللاحق من الحالي؛ فالشفافية تضمن الحماية الشخصية، وصيانة التاريخ الشخصي.
وقد بلغت أوروبا هذا الرشد السياسي والإنساني منذ النجاح الصعب للثورة الفرنسية، وفض عرى التواطؤ الملكي الكنسي، وربما نشهد خلال هذا الجيل نهاية النسخة العربية لهذا التواطؤ، في ظل الرهان على تسلح الشعوب العربية بوعي كاف لفك تسلح الحكم القبلي العشائري برجال دين جاهزين بفتاوى حسب الطلب.
وربما يكون من السخرية إنعاش الذاكرة بمصطلحات “قديمة” مثل “الرجعية” التي أصيبت بانشطارات خارج السياسة، وأصابت دائرة أكثر اتساعا في المجتمع وأجهزة القضاء، وقمة السلطة في أنظمة قبلية لا تحتمل خطأ لمحرر صحفي يضع علامة تعجب سهوا بعد تصريح لمسؤول، أو تعاقب صحفيا لخطأ طباعي يسهل تجاوزه، أما أن يصدر حكم بإعدام الشاعر الفلسطيني أشرف فياض، بتهمة ترويج أفكار إلحادية في بعض قصائد ديوانه “التعليمات بالداخل”، فيصعب تصديقه، لأن أحدا لم يعلن أنه ألحد بسبب الديوان المنشور عام 2008.
(العرب اللندنية 2015-12-29)