الدين كحالة وطنية

قبل نشوء الدولة المدنية المعاصرة في أوروبا، والصراع المرير الذي تمخضت عنه لاحقاً، كان ينظر للدين بأنه ظاهرة عابرة للحدود، ما أدى لحركات تحاول إخضاع الآخرين لها أو نشر ديانتها على حساب الديانات الأخرى، أو محاربتها لإضعافها أو القضاء عليها.
لكن مع ظهور الدولة الحديثة "الدولة-الأمة"، تغيرت مرجعية الحكم على الأفراد والجماعات. فبدلاً من أن يكون الدين المرجعية للتعامل مع الأفراد والجماعات، أصبحت الدولة-القومية هي المرجعية. وبسبب المعاناة من الهيمنة الدينية السياسية، تم الفصل بينهما بحيث تحولت الظاهرة الدينية الى ظاهرة إيمانية روحانية وأخلاقية، وكفلت الدولة حرية الأديان مع المحافظة على هويتها الحضارية التي يشكل الدين جزءاً أساسياً منها.
العالم العربي ليس استثناءً؛ ففي بداية القرن العشرين، بدأت تظهر حركات الإسلام السياسي بأطيافها المختلفة؛ السلمية منها والراديكالية. وبالرغم من الاختلافات بين هذه الحركات، إلاّ أن ما كان يجمعها هو فكرة واحدة تتمثل في إنشاء دولة عابرة ومرتكزة على الدين.
إضافة الى هدف إقامة دولة دينية، التي لم تقم على مفهوم الدولة-الأمة بالمفهوم السياسي المعاصر، ركز هذا المشروع على أن الأمة هي مجموعة المؤمنين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم أو انتماءاتهم لدولة مختلفة؛ فالمسلم المؤمن أينما كان هو جزء من هذه الأمة. هذا المصطلح على قوته أدخل هذه الحركات في أشكال مختلفة من الصراعات مع الجماعة القومية ومع أتباع الأديان الأخرى الذين يشاركون بالأمة-الدولة، وأصبحت الدولة التي تسعى هذه الجماعات إلى إقامتها إقصائية لغير المؤمنين -حسب فهم هذه الجماعة- بأشكالهم كافة، سواء كانوا من الدين نفسه أو من أتباع الديانات الأخرى. والأهم من ذلك أن هذه الحركات حاولت إلغاء الإرث المشترك بين أبناء الدولة الواحدة. وتبين لاحقاً أن هذا التيار السياسي متناقض مع الديمقراطية، وإن تم تبني بعض إجراءات الديمقراطية من قبل بعض هذه الحركات، ولأسباب عملية، وبخاصة بسبب إغراء صناديق الاقتراع التي مهدت لتسلمهم السلطة في بعض الدول.
لقد جاء "الربيع العربي" ليشكل اختباراً تاريخياً حقيقياً لهذه الأطروحات؛ إذ إن بعض هذه الحركات لم يستطع أن ينجز أي شيء على صعيد بناء الدولة الحديثة، وبعضها الآخر حاول إقامة دول متطرفة عابرة للحدود، مستخدماً أبشع الأساليب في التعامل مع الآخر، وصل أحياناً مرحلة التطهير الديني، ليكشف ادعاءات هذه الجماعات.
إذا جاز التعبير، فقد وجدت هذه الحركات نفسها في حالة تناقض مع الحداثة التي تقوم على فكرة الدولة-الأمة، والديمقراطية والتعددية، والحريات الفردية. وفشلت هذه الحركات ليس فقط في عدم قدرتها على تبني الديمقراطية، لا بل بعدم قدرتها على إنتاج نموذج دولة دينية ناجحة.
الأردن من الدول القليلة في المنطقة العربية التي تتمتع بميزة الاستناد إلى إرث إسلامي عروبي يشكل حاضنة حضارية. وفي الوقت نفسه، فقد أرسى أسساً متينة للدولة الحديثة من خلال دستور عصري يحتل فيه الدين مكانة مهمة، ولكن في الوقت نفسه وضع الركائز للدولة المدنية والمساواة بين الأديان. كما ركز من خلال المبادرات العديدة، مثل رسالة عمان، وكلمة سواء وغيرها من المبادرات، على احترام معتقدات المذاهب والأديان كافة، وعلى إبراز المشتركات بينها. وعليه، قد يكون مهيأ لاتخاذ خطوات أعمق تسارع بحالة الانتقال إلى الدولة-الأمة، وبناء دولة أساسها المواطنة يكون مرجعيتها الدستور الأردني الذي يضمن حقوق المواطنين كافة بصرف النظر عن دينهم. وهذا يعني أن الهوية السياسية هي الهوية الأردنية الجامعة والشاملة. وتبقى الهوية الدينية عماد الهوية الحضارية والثقافية الإسلامية والعربية، التي هي بطبيعتها عابرة للحدود.
هذا التحول لن يكون سهلاً أو تلقائياً؛ لأنه يتطلب تغيراً شاملاً للأسس التي تستند اليها التنشئة الاجتماعية، ليس فقط في المناهج، ولكن أيضاً على صعيد الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي.
الدول الحديثة هي الدول التي استطاعت أن تحوّل الوطن لكل مواطنيه، وأن تحول الحالة الدينية كحالة وطنية تسهم في بناء هويته الحضارية والثقافية. أما المشاريع العابرة للحدود، فلن تكون قادرة على بناء الدولة الحديثة.
(الغد 2016-01-14)