الدين كحالة وطنية

تم نشره الخميس 14 كانون الثّاني / يناير 2016 12:43 صباحاً
الدين كحالة وطنية
د. موسى شتيوي

قبل نشوء الدولة المدنية المعاصرة في أوروبا، والصراع المرير الذي تمخضت عنه لاحقاً، كان ينظر للدين بأنه ظاهرة عابرة للحدود، ما أدى لحركات تحاول إخضاع الآخرين لها أو نشر ديانتها على حساب الديانات الأخرى، أو محاربتها لإضعافها أو القضاء عليها.

لكن مع ظهور الدولة الحديثة "الدولة-الأمة"، تغيرت مرجعية الحكم على الأفراد والجماعات. فبدلاً من أن يكون الدين المرجعية للتعامل مع الأفراد والجماعات، أصبحت الدولة-القومية هي المرجعية. وبسبب المعاناة من الهيمنة الدينية السياسية، تم الفصل بينهما بحيث تحولت الظاهرة الدينية الى ظاهرة إيمانية روحانية وأخلاقية، وكفلت الدولة حرية الأديان مع المحافظة على هويتها الحضارية التي يشكل الدين جزءاً أساسياً منها.

العالم العربي ليس استثناءً؛ ففي بداية القرن العشرين، بدأت تظهر حركات الإسلام السياسي بأطيافها المختلفة؛ السلمية منها والراديكالية. وبالرغم من الاختلافات بين هذه الحركات، إلاّ أن ما كان يجمعها هو فكرة واحدة تتمثل في إنشاء دولة عابرة ومرتكزة على الدين.

إضافة الى هدف إقامة دولة دينية، التي لم تقم على مفهوم الدولة-الأمة بالمفهوم السياسي المعاصر، ركز هذا المشروع على أن الأمة هي مجموعة المؤمنين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم أو انتماءاتهم لدولة مختلفة؛ فالمسلم المؤمن أينما كان هو جزء من هذه الأمة. هذا المصطلح على قوته أدخل هذه الحركات في أشكال مختلفة من الصراعات مع الجماعة القومية ومع أتباع الأديان الأخرى الذين يشاركون بالأمة-الدولة، وأصبحت الدولة التي تسعى هذه الجماعات إلى إقامتها إقصائية لغير المؤمنين -حسب فهم هذه الجماعة- بأشكالهم كافة، سواء كانوا من الدين نفسه أو من أتباع الديانات الأخرى. والأهم من ذلك أن هذه الحركات حاولت إلغاء الإرث المشترك بين أبناء الدولة الواحدة. وتبين لاحقاً أن هذا التيار السياسي متناقض مع الديمقراطية، وإن تم تبني بعض إجراءات الديمقراطية من قبل بعض هذه الحركات، ولأسباب عملية، وبخاصة بسبب إغراء صناديق الاقتراع التي مهدت لتسلمهم السلطة في بعض الدول.

لقد جاء "الربيع العربي" ليشكل اختباراً تاريخياً حقيقياً لهذه الأطروحات؛ إذ إن بعض هذه الحركات لم يستطع أن ينجز أي شيء على صعيد بناء الدولة الحديثة، وبعضها الآخر حاول إقامة دول متطرفة عابرة للحدود، مستخدماً أبشع الأساليب في التعامل مع الآخر، وصل أحياناً مرحلة التطهير الديني، ليكشف ادعاءات هذه الجماعات.

إذا جاز التعبير، فقد وجدت هذه الحركات نفسها في حالة تناقض مع الحداثة التي تقوم على فكرة الدولة-الأمة، والديمقراطية والتعددية، والحريات الفردية. وفشلت هذه الحركات ليس فقط في عدم قدرتها على تبني الديمقراطية، لا بل بعدم قدرتها على إنتاج نموذج دولة دينية ناجحة.

الأردن من الدول القليلة في المنطقة العربية التي تتمتع بميزة الاستناد إلى إرث إسلامي عروبي يشكل حاضنة حضارية. وفي الوقت نفسه، فقد أرسى أسساً متينة للدولة الحديثة من خلال دستور عصري يحتل فيه الدين مكانة مهمة، ولكن في الوقت نفسه وضع الركائز للدولة المدنية والمساواة بين الأديان. كما ركز من خلال المبادرات العديدة، مثل رسالة عمان، وكلمة سواء وغيرها من المبادرات، على احترام معتقدات المذاهب والأديان كافة، وعلى إبراز المشتركات بينها. وعليه، قد يكون مهيأ لاتخاذ خطوات أعمق تسارع بحالة الانتقال إلى الدولة-الأمة، وبناء دولة أساسها المواطنة يكون مرجعيتها الدستور الأردني الذي يضمن حقوق المواطنين كافة بصرف النظر عن دينهم. وهذا يعني أن الهوية السياسية هي الهوية الأردنية الجامعة والشاملة. وتبقى الهوية الدينية عماد الهوية الحضارية والثقافية الإسلامية والعربية، التي هي بطبيعتها عابرة للحدود.

هذا التحول لن يكون سهلاً أو تلقائياً؛ لأنه يتطلب تغيراً شاملاً للأسس التي تستند اليها التنشئة الاجتماعية، ليس فقط في المناهج، ولكن أيضاً على صعيد الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي.

الدول الحديثة هي الدول التي استطاعت أن تحوّل الوطن لكل مواطنيه، وأن تحول الحالة الدينية كحالة وطنية تسهم في بناء هويته الحضارية والثقافية. أما المشاريع العابرة للحدود، فلن تكون قادرة على بناء الدولة الحديثة.

(الغد 2016-01-14)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات