تونس ومحنة العاطلين

عادت تونس لتجلب الانتباه مرة أخرى مع تفجر احتجاجات جديدة شعاراتها المطالبة بتنمية المناطق المهمشة وتوظيف العاطلين من حاملي الشهادات العليا، وكأن شريط الأحداث التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي قبل خمس سنوات يعيد نفسه، وهو ليس كذلك، وإن تمنى البعض أن تندلع «ثورة» أخرى قد تدفع بتونس إلى المجهول فعلاً.
لا أحد يستطيع أن يمنع أصحاب الحقوق في العمل وتنمية مناطقهم من التعبير وإبلاغ أصواتهم إلى السلطة المعنية سلماً لا عنفاً وتخريباً ونهباً وربما إرهاباً في وقت لاحق. وما جرى في الأيام الأربعة الأخيرة كشف حالتين من التحركات، واحدة مدنية مسؤولة تتمثل في خروج آلاف الشبان إلى المؤسسات الحكومية التي جرى اقتحام بعضها لمقابلة المحافظين والمسؤولين وتفرق أغلبها بهدوء، وهناك حالة ثانية أبطالها كائنات من البلطجية تلبسوا بالتظاهر وانتشروا ليلاً للاعتداء على المرافق العامة ونهب البنوك والفضاءات التجارية وحرق مراكز للأمن والاعتداء على العشرات من عناصره. وهذا التطور هو أخطر ما في هذه الأحداث العصيبة، وقد ردت عليه الحكومة بفرض حظر التجوال الليلي في كامل البلاد، وهو إجراء يؤكد أن الأوضاع قد بلغت مستوى كبيراً من التهديد للأمن الوطني وتكاد تعطل الدولة نفسها.
شهادات كثير من العاطلين الجامعيين، لاسيما في محافظات «القصرين» و«سيدي بوزيد» و«جندوبة» وغيرها، تثير التعاطف الصادق مع هذه الشريحة من المجتمع في هذه المحنة، فمئات آلاف الشبان تخرجوا في الجامعات بشهادات عليا ليصطدموا بواقع لا يوفر لهم شيئاً في مجتمع تربى على أن التعليم الجيد هو المنقذ من الفقر، ولكن تلك القاعدة لم تعد تستجيب لمقتضيات الحال الراهنة، بل إن المفارقة المأساوية أن هذا الجيش من المتعلمين هو الأكثر إحساساً بالتهميش ويشعر بأن الدولة، التي وفرت له تعليماً مجانياً في جميع المراحل، تخلت عنه في آخر الطريق ليواجه مصيره وحيداً. وبالمقابل فإن الصعوبات الاقتصادية والثمن الباهظ الذي تم دفعه في سنوات ما بعد ابن علي قد شل إمكانيات الدولة في النهوض بالتزاماتها، وأضافت الفوضى التي حلت بليبيا والانكماش الاقتصادي العالمي وتخاذل المانحين الدوليين أعباء يصعب تحملها، لتظل الصعوبات قائمة ولن تستطيع أي حكومة النهوض بها، ومن يدعو إلى تغيير الحكومة والإتيان بأخرى فليس إلا مزايدة سياسية فلا أحد يمتلك فانوساً سحرياً ليحل به الأزمات المتفاقمة.
رشيد صفر الوزير الأول الأسبق في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وجه دعوة حارة من فراش مرضه إلى الشباب التونسي دعاهم فيها إلى التحلي بالوطنية والانتباه إلى خطر الإرهاب المتربص بالوطن، وناشد المحتجين توخي وسائل حضارية للتعبير عن طلباتهم والحفاظ على ممتلكات الشعب والدولة، وهذه الدعوة الصادرة من خبير اقتصادي خبر السلطة قبل 30 عاماً توحي بأن التحدي كبير وكسبه ممكن، إذا توفرت الإرادة والخطط الطموحة. وتونس التي ضربت مثلاً في إنجاح مسارها الانتقالي وأنتجت ديمقراطية فعلية، ونالت أربع من منظماتها المدنية، على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، جائزة نوبل للسلام 2015، بإمكان هذه المنظمات في تكافل مع الحكومة أن تفتح حواراً وطنياً شفافاً سيساهم بقدر كبير في إيجاد حلول لتوظيف العاطلين وتنمية الجهات المحرومة. فالنجاح السياسي سيظل منقوصاً وربما يندثر إلى الأبد إذا لم تتحقق المطالب الاجتماعية للمستحقين، أما دعاة الفوضى والفلتان فعلى الدولة مواجهتهم بقوة القانون والردع اللازم للحفاظ على التجربة التونسية وجعلها «منارة في عالم يتغلب فيه الضباب».
(المصدر: الخليج 2016-01-23)