"ذيب" والفرص الضائعة
!["ذيب" والفرص الضائعة "ذيب" والفرص الضائعة](https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/static.jbcgroup.com/amd/pictures/66513314988b5eec36cda24bebfe59cf.jpg)
ما الذي فعله ناجي أبو نوار؟ لقد حمل فريقه الذكي إلى عمق الجنوب الأردني في صحراء رم، وتواجد هناك لنحو عام، اقترب خلاله من الحويطات في تلك الجغرافيا الساحرة، واستمع إلى كلامهم، وأكل من طعامهم، ثم حاول رسم حالهم قبل مائة عام في لوحة سينمائية أدواتها البساطة والواقعية والإبداع.
أكثر من ذلك، استطاع أبو نوار أن يؤسس لصورة سينمائية غير تقليدية، أبطالها من أهل المكان. فكانت ورش التدريب لمدة 8 أشهر، تبعها التصوير في شهرين. وخلال هذه الفترة من الملاحظة اليومية والمعيشة وملامسة تفاصيل حياة البدو، تمكن أبو نوار من أن يجد للطفل جاسر الصويلحيين، في العام 2011، موطئ قدم أمام شاشة السينما، ومثله لمعظم الممثلين في فيلم "ذيب". واليوم، يقف الفتى جاسر وعمره خمسة عشر عاما، بكل زهو وفخر ليقول لكل العالم: هذه عاداتنا في الشجاعة والكرم ومواجهة الخوف والخيانة، ويصر على أن لدى أهل الشاكرية في وادي رم ما يقولونه للعالم عن مفردات حياتهم.
بالبساطة والواقعية والاقتراب من نبض الناس وإيقاع حياتهم وهمومهم، تمكن أبو نوار والصويلحيين وباقي أفراد الفيلم من نسج قصة تنتقل بين الطفولة والرجولة ضمن مسار الثورة العربية الكبرى قبل قرن من الزمن؛ مغامرة للطفل ذيب تشتبك فيها السياسة مع البداوة، وتروي الكثير من ملامح البداوة الأردنية مطلع القرن المنصرم. ووفقا لهذه الواقعية الإبداعية، سجل الفيلم اسمه ضمن قائمة الأفلام الخمسة الأجنبية المرشحة لنيل جائزة الأوسكار العالمية، والتي ستعلن نتيجتها أواخر الشهر المقبل. وهي المرة الأولى التي يصل فيها فيلم روائي عربي إلى هذه المرتبة المتقدمة.
لم ينفق على الفيلم ملايين الدولارات، ولا توجد بين أبطاله حسناء أو ملكة جمال. كما تم تحييد الإبهار التكنولوجي. فسر النجاح هو الاقتراب أكثر من تفاصيل حياة البدو، عبر صناعة النجم المواطن؛ ابن المكان وصاحب اللهجة. وهنا لا بد من أخذ الدروس من هذه المدرسة الفكرية الراقية. والتساؤل هنا: كم فنانا اقترب من نبض القرى والأطراف والنجوع في دولنا العربية؟ هل لامس "نجوم" الإعلام والصحافة من حولنا حياة الناس ومعاناتهم وأحلامهم؟ وتبحر بنا الأسئلة إلى البحث عن علاقة النخب العربية بمجتمعاتها، وهل تستطيع هذه النخب أن تنطق باسم المهمشين والفقراء، أو أن تجد لهم حلولا؟
سر النجاح الذي وصل إليه أبو نوار والصويلحيين يجب أن لا يغيب عن أذهاننا؛ فكلما اقترب المرء من حقيقة ما يجري وعبر عنه بنزاهة ومصداقية، تحقق له النجاح وتمكن من إيصال الرسالة من دون أدوات المكياج التي تتكاثر في زماننا من دون أن نلتفت إلى خداعها وخوائها. ويفتح هذا الطرح أبوابا كثيرة على جدلية الفرص الضائعة على المستوى الاقتصادي، لأننا نتحدث عن الإنسان من دون أن نقترب من تفاصيل حياته.
معظم الفنانين في الأردن يكابدون أوضاعا قاسية منذ سنوات، بسبب تداعيات السياسة وضعف الإنتاج، وانحسار الأعمال وتشابهها على قلتها. وبقدر ما أفرحتنا تجربة أبو نوار، بقدر ما تحزننا تلك الأوضاع التي آل إليها العاملون في القطاع الفني.
نجاح الفنان والإعلامي والمسؤول الحكومي والنائب والمعلم، كما الطبيب والمهندس، وقبل كل هؤلاء نجاح الاقتصاد، لا يتحقق إلا عندما يقترب الإبداع من ضمير الناس وأنينهم. بغير ذلك، سنبقى نزرع الفشل.
(المصدر: الغد 2016-01-23)