أعمق من كونها مجرد.. »صفقة«! »2-2«
يتواصل سيل الاسئلة والتساؤلات, وتتعدد التكهُنات والتوقُعات على قرار الرئيس الروسي بوتين سحب الجزء الاساسي من القوات والاسلحة الروسية في سوريا، على نحو يُبدِّد ان لم نقل ينسف كل المحاولات الرامية الى تشويه الموقف الروسي، واظهار القرار الأخير بأنه «صفقة» تمت مع واشنطن, أو هي محاولة من موسكو للقول للرئيس السوري أنها ضاقت ذرعاً به، واستطراداً – على ما يزعم البعض – فانها تُعاقِبه وتسحب المظلة عنه، عبر انسحابها الذي سيتركه بلا دعم وبالتالي يُسرّع من سقوطه!!
شيء من هذا لم يحدث, والدلائل اكثر توافراً بعد يومين فقط من القرار الروسي المُفاجئ ولكن الذكي والمحسوب بدقة من قبل «لاعب الجودو» الماهر.. المُقيم في قصر الكرملين، والذي اثبت ضمن امور اخرى، انه استراتيجي مُحنّك، قادر على استثمار «الأوراق» التي بين يديه، باحتراف وشجاعة ودائماً في عدم حرق المراحل او التردد حدود الخوف من تهديدات او عروض او تحالفات عابرة, يعرف القائمون عليها انها غير مُتماسكة وغير قادرة على المُضي الى نهاية الشوط.
ليس ثمة صفقة مع الاميركان او مع غيرهم، والذي جاء في اقل من 24 ساعة الى الساحل السوري، ليُوقف او ليضع حداً للعبث الاستعماري الغربي وبعض العربي بخرائط المنطقة, الرامي الى تنفيذ مشروع تقسيم سوريا تمهيداً لاعادة معادلة التحالفات والاصطفافات وخصوصاً في مرحلة ما بعد اكتشاف ان البحر المتوسط (ساحله الشرقي) يعوم على «محيط» من احتياطيات الغاز، قادر هذا «الروسي» ان يقلِب اي معادلات يمكن ان يُفكر بها الواهمون, بأن روسيا «اضطرت» للانسحاب بعد ان لاح لها شبح افغانستان جديدة...في الأفق.
ولنبدأ من بعض ردود الفعل «السريعة» التي تجمّعت في ساعات ما بعد مفاجأة بوتين الصادمة لأكثر من عاصمة اقليمية ودولية، فليس عبثاً مُسارعة جون كيري, اكبر اللاعبين الاميركيين في الملف السوري, الى موسكو للالتقاء ببوتين، مُستبقاً رحلته الوشيكة بالقول: أننا أمام «افضل» فرصة لحل الأزمة السورية، فيما بدأ الاتحاد الاوروبي إرسال اشارات مفادها ان الانسحاب الروسي من سوريا «قد» يسمح برفع»بعض» العقوبات المفروضة على موسكو، ولم يتردد كثير من المعلقين و الدبلوماسيين بالقول: ان ما حققه الانخراط الروسي في الأزمة السورية خلال خمسة اشهر من أزمة عمرها خمس سنوات كان أقرب الى «الانقلاب» الكامل منه الى اي شيء آخر, سواء في موازين القوى أم في خلط الاوراق الاقليمية بأبعادها الدولية بالطبع، فضلاً عن دفن مشروعات واطماع وخطط امبريالية القراءة والرؤى, يقف في مقدمتها مشروع اردوغان العثماني ، اقامة منطقة عازلة في الشمال السوري, تكون منصّة لنفوذ تركي متدرج ومقراً لحكومة دمى من معارضة مصنوعة في اسطنبول, ترتبط معه بمعاهدات واتفاقات تجعل من سوريا حديقة خلفية لممثلي الاخوان المسلمين «الجدد» في مقر الباب العالي الجديد.
من هنا...ليس عبثاً او محاولة لإخفاء الحَرَج ان يقول رئيس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف: ان انسحاب بعض القوات الروسية باسلحتها المختلفة من سوريا, لم يأت لإرضاء احد او نيل ثنائه، بل لدعم العملية السياسية للأزمة السورية. فأين اذا اشارات «الصفقة» ودلائلها؟ إذا كان سلاح الجو الروسي قد ساند «وبكثافة» القوات السورية في تقدمها نحو مواقع داعش في دير الزور ومَكّنها من تحقيق انجازات ميدانية. اعترفت بها الفصائل الارهابية, في الوقت عينه الذي كانت فيه اسراب من الطائرات الروسية تُغادر الاجواء السورية نحو مطارات بلادها؟
ثم إذا كانت جبهة النصرة (ولمن ينسى او يتناسى أنها الذراع السوري لتنظيم القاعدة) قد هدّدت بانها ستشن هجوماً شاملاً لاسقاط النظام السوري، فلماذا ترددت حتى الان،؟ وخصوصاً ان «مُمثليها» في جنيف الذين يتسترون خلف عنوان الهيئة العليا للمفاوضات، انتعشوا واصابتهم نشوة «غير مُبرّرة» فراحوا يقولون انهم «مستعدون» للتفاوض المباشر مع «وفد النظام» بعد أن قدّموا للمبعوث اللأممي «وثيقة» من ثماني نقاط, تضع «تصوّرهم» للمرحلة الانتقالية والهيئة كاملة الصلاحيات التي ستقودها.
هم فهموا إذاً.. ان الانسحاب الروسي يعني رفع المظلة عن النظام السوري، وراحوا يتصرفون على نحو طائش ومُراهقة سياسية ويُطلقون تصريحات اشبه بالهرطقة والاستذكاء، منها الى احتراف او وعي سياسي, يلحظ ان «بوتين» بقراره هذا، لم يكن يروم إلاّ وضع الجميع–معارضة ونظاماً وعواصم اقليمية ودولية–امام مُعطى جديد يقول: ان الطريق الى حل سياسي يحفظ وحدة سوريا ويفتح الافق على سوريا جديدة، بدستور وبرلمان جديدين يُمثِّل فيه «كل» السوريين, بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعِرق، بات متاحاً، وعليهم اهتبال هذه الفرصة، أما الوهم بان ذلك اعتراف بان جماعة رياض حجاب هي البديل عن النظام، فهو اقرب الى الجنون والهلوسة, منه الى اي شيء اخر.
في السطر الاخير، لا يبدو ان النظام السوري قد اهتزّ او بدأ رئيسه بترتيب حقائبه، او ان الحلف الذي يدعمه قد تصدع او اصابته مشاعر الذعر، وما حدث على اهميته ودلالاته وأبعاده، ولكن دون مبالغة او تحميله اكثر مما يحتمل، لا يعدو كونه إعادة «ترتيب» لاوراق وخطط المرحلة المقبلة, فإما عملية سياسية تستند الى القرارين 2254 و2268 او مواصلة «رقصة الدم» التي ما تزال بعض العواصم والجهات,في الاقليم خصوصاً,تُراهِن عليها.
اي منطق سينتصر في النهاية؟
أيام جنيف3 الراهنة.. ستروي.
(الرأي 2016-03-17)