الأسئلة الخاطئة!
من الظلم الحكم على الدراسة التي أعدّها صندوق دعم البحث العلمي بعنوان "الشباب في مواجهة الفكر المتطرّف"، فقط من خلال الملخّص الذي أعدّه مدير الصندوق. إذ من الضروري الاطلاع عليها كاملةً، والنظر إليها بوصفها لبنة من لبنات فهم ديناميكية التطرف والإرهاب على الصعيد المحلي الأردني.
بعد ذلك، ومن خلال الملخص الذي قرأته، فإنّ الدراسة تعيد وتجتر كثيراً من المقولات والفرضيات التي لا تحتاج بالضرورة إلى إثبات، أو تسرد معلومات لا تضيف بعداً حقيقياً عميقاً لفهم الظاهرة وآلياتها وأشكالها.
الأدهى والأمرّ أنّ الخلاصات والتوصيات التي وُضعت، أقرب إلى الجانب النظري؛ بعيداً عن أيّ رؤى عملية واقعية لبرنامج عمل حقيقي. فالقول بأنّ مكافحة التطرف تحتاج إلى "تحقيق العدالة الاجتماعية من أجل الحد من الظلم الذي يساهم في انتشار ظاهرة التطرف، وتفعيل لغة الحوار وتعزيز ثقافة الرأي والرأي الآخر لدى الشباب، وتعزيز قيم الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد بكل أشكاله، وتطبيق القانون من خلال تعزيز المساواة أمامه، وتعزيز حرية الرأي والتعبير المسؤول، وتعزيز هيبة الدولة..."، بالإضافة إلى قائمة طويلة عريضة من التوصيات، هو أشبه بعدم تقديم أي توصية عملياً، لأنّ هذه التوصيات لو تمّ العمل بها سيتحول الأردن إلى السويد أو الدنمارك، ديمقراطياً وإدارياً، ولانتهى ليس التطرف فحسب، بل والعديد من الأزمات الداخلية والوطنية!
ثمّة ضرورة لأن يعمل الأكاديميون والمتخصصون على ردم الفجوة بين الخطاب النظري العام والأزمات والمشكلات الواقعية وتقديم تصورات متدرجة منطقية، تقرأ الشروط الحقيقية؛ تبدأ من مستوى التفحص وتنتهي بالطموح. وربما مشكلة هذه الدراسة، والتي تعاني منها كثير من الدراسات النظرية الأكاديمية في الأردن، هي أتها تغرق في النظريات والعموميات ولا تقدّم حلولاً حقيقية للأزمات المتعددة.
كثير من الباحثين، وحتى الكتّاب والإعلاميين، لا يميزون بين التفسير والتبرير، ويكتفون بأحكام مسبقة جاهزة في "إدانة الظاهرة"، وينظرون إلى محاولة قراءة الشروط والروافع والمتغيرات المتحكمة فيها بوصفها "تعاطفاً" أو "تبريراً". ولذلك فشلنا، وما نزال، في فهم الظاهرة والإجابة عن أسئلة مهمة، في مقدمتها: لماذا يترك آلاف الشباب جامعاتهم وأعمالهم، وبعضهم ناجح ومتفوق ومتميز، وينخرطون في تنظيمات إرهابية، مثل "داعش"؟!
مثل هذا السؤال يتطلب منهجية أقرب إلى "التمثّل" أو الانخراط العميق في فهم الظاهرة، لاستنطاق السردية الداخلية لها، سواء في جانبها الجوّاني النفسي (السيكولوجي)، أو في سياقها المجتمعي (السيسيولوجي)، لنفهم كيف يتحول هؤلاء الشباب، والصيرورة وأدوات الدعاية والتجنيد، وسرّ الجاذبية.
بالطبع، لدينا "عباقرة" لا يحتاجون إلى كل ذلك، إذ من دون أن يقرأوا حرفاً في حياتهم عن الموضوع، يُفتون ويطلقون أحكاماً وآراءً، ومناقشة الجاهل -بحدّ ذاتها- عقوبة وعناء. لكن من يقرأ كثيراً من الجهود البحثية الغربية، سيجد -للأسف- الفرق واضحاً!
كنتُ أتمنى على هؤلاء "العباقرة" قراءة المقدمة فقط لكتاب "الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم"، للأنثروبولوجي الأميركي سكوت أتران (وترجمته مؤسسة "مؤمنون بلا حدود")، الذي أمضى عمراً طويلاً يتتبع الجهاديين في بيئاتهم الاجتماعية، ويدرس الظروف والشروط المنتجة للظاهرة، ليصل إلى نتيجة بأنّهم ليسوا عدميّين، بالمعنى المطلق الفلسفي المعروف، بل هم قد يكونون في كثير من الحالات مفرطين في مثاليتهم وفي حساسيتهم الداخلية، ما يؤدي إلى التطرف المقابل!
نود أن نقرأ دراسات تغوص إلى العمق للبنى الداخلية والمجتمعية، لا أن تبقى على السطح بنتائج عامة فضفاضة!
يرى عالم النفس الأميركي المتخصص بالإرهاب جون هارغون، في مقدمة كتابه "سيكولوجيا الإرهاب"، أنّ الأسئلة الصحيحة هي الكفيلة في تقديم الإجابات الصحيحة. لذلك، دعونا نعيد التفكير في الأسئلة ابتداءً!
(الغد 2016-04-01)