حول بشر عاديين يهتفون لطغاة وفاسدين
قبل أيام توقفت مليا أمام حشد كبير من البشر في صنعاء جاؤوا تلبية لدعوة من المخلوع علي عبد الله صالح، فحضر وخطب فيهم كأنه زعيم ثوري، ثم مضى مسرعا إلى جحره؛ هو الذي حمّاه القرار الخارجي من مصير كمصير القذافي. ولم يستوقفني بالمقابل الحشد الآخر في نفس اليوم للحوثيين، وبالطبع لأنه حشد مذهبي واضح. مورس الكثير من الهجاء، وسيتواصل بحق الأنظمة الحاكمة، والنخب التي تمثلها في العالم العربي، كما مورس الكثير من الهجاء أيضا بحق النخب المثقفة التي قبلت بدور المحلل لسياسات تلك الأنظمة، لكن القليل من الهجاء هو ذلك الذي وُجه للجماهير التي تمنح بعض الشرعية لأولئك، وتساعدهم في الحفاظ على مكتسباتهم. حين تتكرر هذه الظاهرة بمناسبة انتخابات أو غيرها ، فهذا يعني أن الأمر ينطوي على أزمة تتعلق بالإنسان أيضا، وليس فقط بالسلطات الحاكمة، أو بالنخب المثقفة التي يجري إفسادها بالمال والمصالح. نفتح قوسا هنا كي نشير إلى أننا نتحدث عن نسبة من الجماهير تزيد وتنقص بحسب الظروف الموضوعية في كل بلد، فيما ثمة نسبة أخرى، قد تكون أكبر في كثير من الأحيان لا زالت تنحاز إلى الحق والصدق. والحال أننا لا نتحدث هنا عن حالات ملتبسة يمكن النقاش بشأنها، بل عن حالات يبدو الحق فيها واضحا إلى حد كبير، ما يجعل الانحياز لأولئك الطغاة أو الفاسدين ضربا من الانحياز للباطل لا يسعفه أي تبرير، وهو انحياز ذو صلة باعتبارات تتعلق بالمصالح الشخصية أو الفئوية ولا شيء آخر. هنا على وجه التحديد، يمكن الحديث عن سقوط للإنسان، وهو يختلف عن سقوط النخب التي تتعرض لإغراءات أكبر، إذ يسقط أولئك مقابل مكاسب أقل، بل بدون مكاسب مباشرة أحيانا غير سياق تلبية مطلب الحشد الغرائزي. والنتيجة أننا إزاء مواقف قد تكون لأسباب عرقية أو طائفية أو قبلية، مع صلتها بالمصالح والهواجس الشخصية، مع تبريرات لا تخلو من جانب شخصي مثل الحديث عن الأمن والاستقرار وما شابه من مصطلحات يبرر المرء من خلالها وقوفه مع أطراف دكتاتورية وفاسدة. لا قيمة هنا للحديث عن النجاح والفشل، لأن فرصة اختبار حقيقي لم تتوفر للطرف الآخر، بينما حصل الطرف الأول على فرصة عقود لم تنتج إلا مزيدا من الفساد والدكتاتورية. ثم إن كون الخيارات الجديدة ليست زاهية تماما، لا ينفي أنها أفضل من السابقة، مع العلم أن الخيار هنا هو بين دكتاتورية باقية، وبين تعددية يمكن أن يختار من خلالها الإنسان فريقا آخر في المرة المقبلة. إن من يصوت لفئات من اللون القديم “المجرَّب”، أو يدافع عنها بقلمه أو لسانه يحتاج إلى التنقيب عما في داخله ليعالج ضميره قبل أي شيء آخر. هي ليست ظاهرة حديثة بكل تأكيد، وللتذكير مرة أخرى، فنحن هنا لا نتحدث عن الاجتهاد السياسي، حتى لو كان ذلك الاجتهاد خاطئا، ونتاج التضليل الإعلامي، لكننا نتحدث عن قطاع يدرك في قرارة نفسه حين يواجهها بالحقيقة أن أكثر المبررات التي يسوقها كاذبة، ولا تمنحه حق الانحياز لباطل مجرَّب، أو حتى ما هو أقل من الحق، بمعنى الخيار الأقل سوءا من الناحية المبدأية والأخلاقية، فضلا عن الاختيار بين مسار تعددي، وآخر غير ذلك. ولعل الكارثة الأكبر أن يحدث ذلك من قبل أناس متدينين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعلمون أنهم مأمورون بالوقوف مع الصادقين، وأقله نبذ الباطل وأهله، ولا قيمة للحديث عن تبعيتهم لمشايخ يدرك العاقل أن أكثرهم يفعلون ذلك تبعا لمصالح أيضا. إن من يبع صوته أو موقفه رغبا أو رهبا وهو يعلم أن ينحاز لباطل (نستثني مرة أخرى من اقتنع حقا بغير ذلك)، لا يستحق الاحترام بأي حال، وعليه أن يراجع نفسه ليكون في صف المدافعين عن الحق، والمدافعين عن مصالح الشعوب وحريتها وحقها في اختيار حكامها، ولا يظنن أحد أن صوته أو موقفه بلا قيمة، لأن مسيرة الشعوب والأمم هي حصيلة مواقف الآحاد.
(الدستور 2016-04-06)