عن الوجبة الثالثة من التعديلات الدستورية
للمرة الثالثة في خمس سنوات، يُفتح الدستور للتعديل والتبديل، وهذا رقم قد يكون “قياسياً” حين يتصل الأمر بـ “أبو القوانين” ... المرة الأولى، جاءت شاملة نسبياً، وفي ذروة انتفاضات “الربيع العربي”، وقد عُدّت التعديلات التي طالت ثلث مواد الدستور تقريباً، إصلاحية إلى حد كبير ... يومها، تشكلت لجنة ملكية لهذا الغرض، وجرت نقاشات ومداولات عديدة بشأن المواد التي يتعين تعديلها، وتلقت اللجنة فيضاً من المقترحات، اخذت ببعضها وأبقت البعض الآخر في أدراجها، وتلكم طبيعة الأشياء، ولقد تولى مجلس الأمة بغرفتيه، مناقشة المواد والتصويت عليها، وراقب الأردنيون المشهد بكثيرٍ من الارتياح، وإن اختلفت آراؤهم، فيما يتعين تعديله وكيف، وفيما يتوجب إبقاؤه، ولماذا... كان مشهداً إصلاحياً بامتياز. التعديل الثاني، جاء جزئياً وعلى عجل، واتخذ صفة الاستعجال، مع أن كل ما ورد من تعديلات لا يحمل صفة مستعجلة بأي شكل من الأشكال أو حال من الأحوال ... جرى إقرار التعديلات “ بعيداً عن الحوار والمشاركة والشفافية والتشاور مع مختلف السلطات والفاعلين ذوي الصلة والشأن ... لست هنا أتحدث عن “مضمون” تلك التعديلات، فقد جاءت لتعزيز سلطات الملك بتعيين قائد الجيش ومدير المخابرات، أما الهيئة المستقلة للانتخاب، فقد اكتسبت صلاحيات أوسع، ولقد رحبنا بالأمرين معاً في حينه. في “الأسباب الموجبة” للتعديل الثاني، قيل أنها تعبّد الطريق للخوض في تجربة الحكومات البرلمانية، بقيت “التعديلات” وطارت الحكومة البرلمانية، وقيل في أسباب التأخر في استخراج الحكومة البرلمانية، ان البرلمان السابع عشر، قائم على الأفراد و”الفردية”، وليس على التعددية الحزبية والبرامجية والكتل السياسية، ويصعب في وضعية كهذه، الخوض في غمار الحكومات البرلمانية ... قلنا آمين ... ستكون هناك انتخابات أخرى، وبرلمان آخر، فإذا بالحكومة تأتي بمشروع قانون جديد للانتخاب، غير صديق للأحزاب، وسيعجز عن الاتيان ببرلمان قائم على التعددية الحزبية والكتل السياسية ... وإذ حاولنا وحاول غيرنا، إدخال تعديلات من شأنها “تجويد” المشروع المقدم، فقد أصرت الحكومة على إقراره كما ورد منها، وضُرِبَ عرض الحائط بكل النتائج والخلاصات والتوصيات التي انتهت إليها صولات وجولات من “الحوار الوطني” الذي أداره مجلس النواب، بعد أن أوكلت إليه الحكومة المهمة، متخلية طوعاً عن مسؤوليتها هي بالذات، في إدارة الحوار مع مختلف الفاعلين، كما تقتضي “الولاية العامة” والأعراف والتقاليد المرعية. ها نحن اليوم بانتظار التعديل الثالث على الدستور، والذي يأتي في سياق التعديل الثاني، وليس في سياق التعديل الأول ... فجأة وعلى حين غرة، وبصفة الاستعجال، يجري “سلق” جملة من التعديلات، بعضها يبدو أنه “سقط سهواً” في التعديل الثاني “المسلوق” وأخص به، شمول صلاحيات الملك المنفردة تعيين قائد الدرك .... ومن دون حوار أو استشارة أو تمهيد، جرى تمرير التعديلات إلى مجلس النواب، الذي يخوض فيها هذه الأيام، بين مؤيد ومعارض ... تعديلات تعزز صلاحية الملك في تعيين جملة من المؤسسات والمواقع القيادية في الدولة بمؤسساتها وأجهزتها المختلفة، وتعيد الاعتبار لحملة الجنسية المزدوجة، بوصفهم مواطنين لا عملاء مزدوجي الولاء والانتماء، وتمدد “ولاية” رئيس مجلس النواب إلى سنتين، بدلاً من سنة واحدة. هذه المرة، تُطرح التعديلات في سياقين، أو بالأحرى يمكن فرز “الأسباب الموجبة” للتعديلات إلى “سلتين اثنتين” ... الأولى، وهي التمهيد لتجربة الحكومات البرلمانية، في استحضار متأخر للنقاش العام الذي دار قبل أكثر من سنتين، وفي ظني أن البرلمان الثامن عشر، لن يختلف نوعياً عن سابقه، والأرجح أنه سيخرج علينا بعد عام أو أقل قليلاً من سيقول: الظروف لم تنضج بعد لاختبار الحكومات البرلمانية، فليس هناك كتل حزبية وبرامجية، وستبقى التعديلات الدستورية “الثالثة” كحقيقة دستورية قائمة، فيما الحكومات البرلمانية، ستبقى قائمة كذلك، ولكن في “علم الغيب”. أما السلة الثانية من التبريرات والأسباب الموجبة، فقد أقحمتنا في جدل فقهي عقيم حول مبدأ فصل السلطات وضرورة احترامه من خلال حصر الصلاحية بتشكيل المحكمة الدستورية وتعيين رئيس مجلس القضاء بجلالة الملك ومن دون تنسيب الرئيس والحكومة والوزراء ... هل كان هذا المبدأ معطلاً طوال السنوات والعقود التي انقضت، وكانت خلالها الحكومات تنسب بتعيينات من هذا النوع؟ ... وهل يجب حصر أمر التعيينات بتنسيب من الحكومة أو بقرار منفرد من جلالة الملك؟ ... أليست هناك صيغ أكثر ديمقراطية وتشاركية لتعيين أعضاء المحكمة الدستورية على سبيل المثال، كأن توسع دائرة التنسيبات والمُنسبين، فتشمل مجلس النواب والأعيان والمجلس القضائي ومجلس الوزراء، بنسب وحصص منصوص عليها، كما في بعض التجارب. ثم، لماذا الآن، نكتشف أهمية أن تكون قوات الدرك، خارج التجاذبات السياسية، فهل هي داخلها الآن، وهل يعني استلحاقها بقيادة الجيش ومديرية المخابرات، ترك بقية الأجهزة الأمنية والشرطية للتجاذبات السياسية، هل سنكون أمام “تعديل رابع” يلحق بقية الأجهزة الأمنية بسابقاتها ... وهل من الحكمة أن ترتبط برأس الدولة، المسؤولية عن سلوك أجهزة معرضة للاشتباك مع الرأي العام أو أقسام منه، ولماذا لا نبقي المسؤولية والمحاسبة والمساءلة، على كاهل الحكومة ووزير الداخلية؟ ... كان مفهوماً حصر صلاحية تعيين قائد الجيش ومدير المخابرات العامة، بجلالة الملك بحكم الولاية والتفويض التي تعمل هاتان المؤسستان بناء عليهما، فهل يتعين فعل الشيء ذاته مع قوات الدرك، وهل صلاحيات وتفويض كل من هذه المؤسسات الثلاث، من طراز واحد، لتوضع تحت سقف “مادة واحدة” معدلة في الدستور؟ في المضمون، نؤيد ما ذهبت إليه التعديلات بخصوص مزدوجي الجنسية وتمديد “ولاية” رئيس المجلس ... وندعو لأوسع نقاش وحوار حول “التعديل الدستوري الثالث”، فإذا كان لا بد من التعديل، ولا ضير في ذلك، فهناك مواد أخرى تستحق التعديل من نوع سن المرشح للانتخابات، وعدم التمييز بين الأردنيين على أساس الجنس (هل تذكرون)، والأمر من قبل ومن بعد، لا يحتمل صفة الاستعجال، فلسنا في حالة طوارئ، ولا الحرب على الأبواب، ولا الحكومات البرلمانية جاهزة، ولا ينقصها سوى إخراج بعض الأجهزة الأمنية من دائرة التجاذبات ... لدينا متسع كبير من الوقت، لاستدخال تعديلات دستورية ناضجة وتوافقية، تحفظ الدولة وأجهزتها وقواتها المسلحة، وتعمق مسار الإصلاح والتحول الديمقراطي، وتبني على مفهوم المواطنة المتساوية للجميع، نساء ورجالا، وتفرج عن الطاقات الشبابية المعطلة والمجمدة ... لدينا الوقت، لنفعل كل ذلك، من دون عجلة ...
(المصدر: الدستور 2016-04-21)