الأمم المتحدة أداة في يد القوى الدولية لمعقابة شعوب بعينها
يمكن أن تتورّط دول أو أنظمة في جرائم إبادة جماعية، فيعاقب سياسيوها على تلك الجرائم وينال كل طرف جزاءه. لكن أن تتورّط الأمم المتحدة نفسها في نية إبادة جماعية للعراقيين في فترة الحصار الجائر على أطفاله وشيوخه فهنا يكمن الخطر المخيف، حيث لا أحد الآن له شرعية التحكيم بين الدول. وهذا ملخص اعترافات هانز كريستوفر فون سبونيك، في كتابه الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت والذي حمل عنوان “تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو”.
أطفال العراق ضحايا حرب بقرار أممي
تسليط الضوء على البعض من المعلومات الموثقة تاريخيا حول مصادر التحكم في الدور الأممي الذي أدّى إلى احتلال العراق وتدميره تدميرا شاملا، يفتح أمامنا آفاقا حول الأدوار الجديدة للمنظمة الأممية وآلياتها في منطقتنا، ولربما يقنعنا، قبل فوات الأوان، بمراجعة الأدوار والمهمات التي ينفذها المبعوثون الأمميون الذين يصولون ويجولون في بلداننا العربية، منذ عام 2003 حتى يومنا هذا، من مناطق الصراع والاقتتال الطائفي المغلوبة على أمرها، إلى صالات الحوار في جنيف والصخيرات وغيرها، من دون أن يُنصَف الحق أو يتحقق الإنصاف، حيث العمليات الحربية العسكرية والإرهابية والقصف والتفجيرات تتصاعد، وأعداد القتلى والجرحى والمشردين والمهاجرين تتزايد، والهدم والدمار الشامل يجتاحان بلدان النزاع من دون رادع، ومشروع الفوضى وبلقنة العرب ومنطقتهم في تقدم مطرد.
يمكن الاستشهاد هنا بكتاب هانز كريستوفر فون سبونيك “تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو”، حيث أن المؤلف يعد أهم شاهد عيان على مأساة الشعب العراقي في ظل عقوبات التدمير الشامل التي فرضها مجلس الأمن عليه، وأحد أهم المبعوثين الأمميين للعراق في حينه، علما بأنه قد تم الكشف عن العديد من الأدلة الموثقة الأخرى والعديد من المصادر المُحكَمة في هذا الشأن خلال العقدين الأخيرين.
لكل مواطن عراقي 32 سنتا في اليوم في فترة الحصار ثمن مواد غذائية وطبية وزراعية وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم
مأساة دامية
كما ورد في مقدمة الكتاب، يسرد فون سبونيك ما تختزله الأخبار إلى مجرد عناوين وفقرات إخبارية، صماء في أغلب الأحيان، فالعشرات من التقارير التي نعرف منها مجرد “مانشيتات” عريضة تمثل في هذا الكتاب صفحات متتالية تكشف الجوانب الإنسانية في تفصيلاتها الحياتية، وبالأحرى في جوانبها المأساوية الدامية، فالعراق بالنسبة إلى المؤلف ليس مجرّد اسم على الخارطة.
يؤكد هانز في تقديمه للكتاب أن العراق حُرم من كل الخيارات التي كانت أمام جميع أطراف الصراع “بما فيها أمانة الأمم المتحدة”، والتي لو كان قد اختيرت طريقة الحوار لكان العالم اليوم أكثر أمنا، ولكن “لقد أزيح دكتاتور، ورُفعت عقوبات اقتصادية، ولم يُعثر على أسلحة دمار شامل، إلا أن ارتدادات هذا الزمن المضطرب مازالت حاضرة في الشعور داخل العراق وخارجه”.
ويشرح هانز كريستوفر فون سبونيك أن مسؤولياته في تلك المهمة، كما فهمها، كانت تتعلق بوظيفتين رئيسيتين؛ الأولى أن يكون مديرا ناجحا لبرنامج النفط مقابل الغذاء، والثانية أن يشرح للأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حال الأوضاع الإنسانية في العراق. ولكن يعترف سبونيك بأنه في وقت متأخر جدا علم أن فهمه “لهذه الوظيفة الثانية لم يكن مستساغا في واشنطن ولندن، وقد أفصح جيمس روبين، الناطق الرسمي باسم وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، عن هذا الأمر في موجز صحافي بوزارة الخارجية الأميركية، إذ قال هذا الرجل يتقاضى راتبه ليعمل لا ليتكلم”. وهنا يتساءل هانز “هل كان منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية أداة استغلال أم كان مشاركا مقبولا في السجال العراقي؟”، في إشارة واضحة لحجم الهيمنة على دور المنظمة الأممية.
ويؤكد المبعوث الأممي أن مجلس الأمن أخفق في تنفيذ سياساته ضمن الحدود التي رسمها ميثاق الأمم المتحدة. ويدعم صحة رأيه هذا من خلال التأكيد على أن “الأمم المتحدة نفذت العقوبات الاقتصادية الشاملة من دون تحديد متقن مسبق لحاجات السكان المدنيين”، وأيضا “أن قرارات الأمم المتحدة المصاحبة للعقوبات صيغت بشكل غير دقيق ولذلك كانت عرضة للتأويل وللاستغلال السياسي”، إضافة إلى العديد من الأدلة والبراهين الأخرى. وللتحديد يؤكد الكاتب أن الخطوة الأولى في اتجاه خرق القانون الدولي بدأت عندما رفض الأمين العام الاستجابة لتحذيرات المبعوثين الأمميين منذ عام 1991، التي نبّهت إلى بداية تكوّن كارثة إنسانية. أما الخطوة الثانية في مخالفة القانون الدولي فتتعلق بالأسلوب الذي نفذ مجلس الأمن به مهمة الإشراف المنوط به.
هانز كريستوفر فون سبونيك: معرفة المنظمة الدولية بالكارثة دليل على انتهاكها لحقوق الإنسان
إبادة جماعية
أكد الكاتب فون سبونيك أن العقوبات التي فرضت على الشعب العراقي كانت انتهاكا مباشرا لاتفاقية لاهاي وأنظمة 1907 (ويشار إليها أيضا في اتفاقية جنيف 1949) التي تنص على أنه “لن ينزل بالسكان عقاب عام أو عقاب مالي أو خلاف ذلك بسبب أفعال أفراد لا يمكن اعتبار السكان مسؤولين عنها جماعات أو فرادى”. وأن مجرد مؤشرات سوء التغذية والأمية خلال أعوام العقوبات وأسبابها تعتبر أدلة على انتهاك للمادة 50 من الاتفاقية. إضافة إلى أن العقوبات الاقتصادية كانت قد فقدت شرعيتها بعد أن انتهت أسبابها، فكان استمرارها يعد انتهاكا خارقا للمواثيق الدولية، مؤكدا أن العقوبات ضد العراق كان يستهدف الشعب العراقي وليس النظام، فكان الأطفال والشباب وتعليمهم وصحتهم ومستقبلهم هدفا رئيسيا لجحيم تلك العقوبات الظالمة والقاتلة.
ويؤكد المبعوث الأممي السابق في الصفحة 212 من كتابه، أن معرفة المنظمة الدولية بالكارثة، التي يعيشها الشعب العراقي وتجاهلها، والتمسك بسياساتها ترسخ علاقة سببية وتشير إلى “دليل النية الذي يقود إلى دليل انتهاك واع لحقوق الإنسان والقانون الإنساني من جانب الحكومات الممثلة في مجلس الأمن، أولها حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا”، ويبرهن صحة كلامه في هامش الصفحة بأن سلسلة أسباب موت الأطفال في العراق كانت تؤكد وجود النية في قتل أطفال العراق بواسطة العقوبات.
كما يؤكد أنه “كان يمكن أن يعد مجلس الأمن برنامج النفط مقابل الغذاء كي يقوم فعلا بإعفاء السكان المدنيين من النقص في الأدوية وانعدام المعدات التشخيصية ومواد التعليم وغيرها، وحقيقة أن مجلس الأمن توفر على خيارات لفعل ذلك، واختار ألا يفعل، تقود ثانية إلى مسألة ‘النية’ وتؤكد أن عدم كفاية الإمدادات الإنسانية تحت العقوبات شكل أيضا خرقا للقانون الإنساني الدولي”.
ويكشف الكتاب أن العقوبات التي فرضت على الشعب العراقي كانت أبشع جريمة منظمة، معدة مسبقا، وصلت إلى درجة الإبادة الجماعية، ويدعم الكاتب رأيه بالتقرير الذي قدمه الخبير في العلوم الدولية مارك بوسيوت إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة في العام 2000 والذي توصل إلى استنتاج أن “نظام العقوبات ضد العراق كان ذا غرض واضح هو إنزال عقوبة متعمّدة بالشعب العراقي لناحية ظروف حياته، وهي عقوبة محسوبة لإحداث تدمير مادي كليا أو جزئيا، أي أن الحكومات الأعضاء في مجلس الأمن خرقت المادة 2 من اتفاقية نبذ الإبادة الجماعية لعام 1948″.
العراق حُرم من كل الخيارات
وكانت دعوات لأنسنة العقوبات المفروضة على العراق قد صدرت عن وكالات ومسؤولي الأمم المتحدة في العراق، ومن منظمات مدنية ودينية في أنحاء العالم، ومن البابا يوحنا بولس الثاني، ومن نيلسون مانديلا، وشخصيات أخرى مرموقة، لكنها لم تحدث أي فارق في سياسة مجلس الأمن، لقد تم تجاهلها. وقد تم تجميد الموجودات العراقية في الخارج بما فيها موجودات المواطنين العراقيين الأفراد، وكان “العراق كبلد، والعراقيون كمواطنين يعتمدون على مجلس الأمن للبقاء على قيد الحياة، لا سيما في أعوام العقوبات الأولى”، حيث إنه تم فرض المقاطعة والحصار التام حول العراق بموجب أخطر وأقسى بنود ميثاق الأمم المتحدة.
إن تخطيط برنامج النفط مقابل الغذاء وتمويله وتنفيذه كان يعكس قسوة لافتة من جانب مجلس الأمن، وكان محظورا على العراق بيع نفطه أو استيراد احتياجاته بشكل مباشر، وكان يتم ذلك في “ضوابط صارمة من مجلس الأمن”، إذ طالب مجلس الأمن بأن ينقل العراق مسؤوليات عوائد نفطه إلى الأمم المتحدة، ويتحول إنتاج النفط تحت إشراف دولي ويكون خاضعا لضوابط تصدير واستيراد صارمة.
ويذكر الكاتب أيضاً أن الميزانية المقترحة، في بداية مهمته، من أجل بقاء 22.5 مليون عراقي مدة ستة أشهر كانت بقيمة 2.7 مليار دولار، وفي هامش الصفحة يشير إلى مدى لا عدالة ولا عقلانية هذا المبلغ مقارنة بميزانية الأمم المتحدة لنفس الفترة التي بلغت 2.4 مليار دولار.
ويعترف هانز بأن مصدر تمويل برنامج النفط مقابل الغذاء كان عراقيا صرفا، ولم تكن هناك أي آلية لسد أي نقص من مساهمات خارجية، وأن الإشارة إلى المساعدة الإنسانية بحسب تعبيره “كانت تعزز الملاحظة الكاذبة بأن ثمة دعما ماليا خارجيا”، فقد كانت المبالغ المطلوبة تُسلّم من خزينة الأمم المتحدة إلى حساب النفط العراقي في بنك باريس الوطني من الدخل المحصل من نفط العراق. إضافة إلى ذلك لم تكن الأموال العراقية تستخدم بكفاءة من قبل الأمم المتحدة التي كانت تتولى التفاوض بشأن الرسوم وأسعار الفائدة المتعلقة بالودائع العراقية في البنك المذكور، وكان مقرر الأمم المتحدة يرفض إنجاز الإمداد بالمؤن المدنية الأساسية من سلع غذائية وطبية ضرورية قبل وصول المبالغ إلى خزينة البنك.
كان المبلغ الفعلي الذي يُصرف لمساعدة العراقيين على البقاء لا يزيد على 66 بالمئة من إيرادات النفط. وكان ذلك يعادل 118 دولاراً للفرد العراقي في السنة، “وهذا يعني أن لكل مواطن عراقي 32 سنتا في اليوم، هي ثمن مواد غذائية وطبية وزراعية وكهرباء وماء وصرف صحي وتعليم”.
كان النقص في الأموال والعراقيل البيروقراطية وكذلك تعمُّد ممثلي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة المنع عن تقديم الإمدادات الإنسانية، كان ذلك كله عناصر لسياسة إغفال دولية. كما كان هناك احتواء متعمد وتركيز على نزع الأسلحة “التي لم يكن لها وجود” فاق الاهتمام بالوضع الإنساني.
الاتفاقيات الدولية باتت أداة تستخدمها الدول المتوحشة لإذلال الدول الضعيفة
انتهاكات الأمم المتحدة
في الصفحة 213 من الكتاب يقول المبعوث الأممي هانز سبونيك “يصح الاستنتاج القائل، من بين أمور أخرى، إن مجلس الأمن خرق اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، واتفاقية نبذ الإبادة الجماعية، واتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، منذ بداية برنامج النفط مقابل الغذاء في عام 1996 من خلال وضع قيود صارمة على حقوق الأطفال في الصحة والتعليم وتنمية شخصياتهم”.
ويؤكد الكاتب أن “قرارات معاقبة العراق التي اتخذها مجلس الأمن الدولي كانت غامضة ومن دون أهداف مفَصلة للعقوبات ولا للاستثناء الإنساني”، كما كان الإطار الزمني للعقوبات مفتوحا، من دون إشراف مستمر من مجلس الأمن، ومن دون وجود مأمور مظالم يمكن اللجوء إليه، وكان كل هذا وأمور أخرى كثيرة مخالفا للميثاق وللاتفاقيات الدولية وخرقاً لكل الدساتير الإنسانية. واستمرت هذه العقوبات للنهاية، أي إلى أن أكملت أهدافها في تدمير أمة بأكملها من دون أي وازع، رغم أنه لم يكن هناك شح في التحذير من تجاهل حقوق الإنسان سنة إثر سنة من قبل المجتمع الدولي والمنظمات المتخصصة والحكومات والأمين العام وموظفي الأمم المتحدة وقادة الكنائس والأشخاص ذوي الضمائر الحية.
وفي سياق ما ذكره سبونيك فإن عمق خطورة المأساة العراقية يكمن في أنها لم تكن عرضية أو نشأت عن جهل، بل كانت بسبق الإصرار والترصد والتعمد، وتدمير الأمة العراقية كان هدف تلك العقوبات، وهدف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المتحكمتين في إرادة المنظمة الأممية، كما جاء في الكتاب.
إن المعلومات الموثقة الواردة في هذا الكتاب، والتي لا يمكن جردها كلها في مقال صحافي، تمثل ناقوس خطر لا يمكن تجاهله، حول انتهاء دور الأمم المتحدة الذي نص عليه ميثاق تأسيسه في فرض العدالة ومنع قيام الحروب، مما لا يترك مجالا للثقة بالعدالة الدولية أمام الدول الصغيرة خارج التكتلات الإقليمية أو التحالفات الدولية التي يمكن أن تُشكل سدّا أمام هيمنة غول نظام الأحادية القطبية، وإلا فإن البشرية ستستمر في السير نحو الخلف إلى عصر الغاب، حيث سيأكل القوي الضعيف دون أي رادع أو وازع إنساني، فالمواثيق والاتفاقيات الدولية باتت أداة تستخدمها الدول المتوحشة لإذلال الدول الضعيفة والقضاء على وجودها والمشهد العربي يسطع اليوم بالشواهد الحية.
(العرب اللندنية 2016-04-25)