عن الدعوي والسياسة والجماعة والحزب
قلنا مرارا إن المشكلة بين الإخوان هنا وبين الأوساط الرسمية هي مشكلة سياسية وليست قانونية، حتى لو أخذت الطابع القانوني في الظاهر، ومن عادة الجهات الرسمية في أي بلد أن تستخدم أدوات ذكية في التعاطي مع معارضتها السياسية من أجل ضربها وتحجيمها حين ترى الوقت مناسبا لذلك، وهو أمر طبيعي في عوالم السياسة، فما من سلطة تتصدق على معارضتها، وما تأخذه الأخيرة من مكاسب هو نتاج نضالها ونضال قواعدها قبل أي شيء آخر، ويحدث أن يأتي الأمر نتاج تلاقٍ في المصالح بين الطرفين في مواجهة طرف ثالث؛ داخلي أو خارجي. على أن ذلك لا يعني تجاهل الأبعاد القانونية، إذ من الطبيعي أن تنتزع أية جهة سياسية من خصومها ما يمكن أن يستخدموه ضدها من أدوات ما وسعها ذلك، بخاصة إذا كانت البدائل الأخرى لديها محدودة، أو هي من النوع الذي لا تستطيع تحمل تبعاته، وفقا لمنظومتها الداخلية، والظروف الموضوعية المحيطة. قبل أيام اتخذت حركة النهضة في تونس قرارا لافتا بفصل الدعوي عن السياسي، واعتبار الحركة حزبا سياسيا محضا لا صلة له بالجانب الدعوي الذي يمكن أن تقوم به هيئات ومؤسسات أخرى؛ ذات صلة بالحركة أو بعيدة عنها، وربما بتوجيه منها؛ بحسب الظروف. وكان هذا النموذج موجودا في المغرب في حالة حركة التوحيد والإصلاح التي انبثق عنها حزب العدالة والتنمية، لكن بفصل كامل بين المؤسستين، وهو نموذج يختلف عن نموذج النهضة الجديد، إذ تحولت الأخير بالكامل إلى حزب، فيما بقيت الحركة قائمة في المغرب إلى جانب الحزب، وبالطبع لأن الوضع لم يبلغ مستوى التوتر في دول أخرى، بدليل وجود جماعة أخرى ترفض اللعبة السياسية القائمة، ومع ذلك تعقد لقاءاتها وتنتخب قادتها، وإن بقدر من التضييق؛ أعني حركة العدل والإحسان. هنا في الأردن، وفي ظل التوتر الراهن، وحالة الارتباك التي نتجت عن عوامل داخلية في الجماعة (الإخوان)، استغلتها الجهات الرسمية، يستحق الأمر بعض التوقف من أجل أخذ هذه النماذج في الاعتبار، إن كان باتخاذ مسار تونس أو المغرب، وهو ما تحدثنا عنه في مقال سابق هنا. الذين يتحدثون عن الاستفادة من الجماعة المرخصة، وتسوية العلاقة معها لا يأخذون التطورات الراهنة بنظر الاعتبار، ويصرون على المراوحة، فإذا كان الهدف هو الترخيص، فما الحاجة إلى الذهاب إلى قوم تركوا جماعتهم وأسسوا أخرى، بينما يتوفر بين يدي الجماعة حزب مرخص يمكن الاندماج فيه بالكامل، بينما تبقى الجماعة بأطرها من غير نشاط سياسي، مثل جماعة الدعوة والتبليغ، أو حتى تجاوز الأمر برمته، وإنشاء أطر مشابهة للجماعة داخل الحزب من أجل استمرار العملية التربوية، لا سيما أن لكل حزب طريقته في التواصل مع أفراده، ولا شيء يمنع ذلك؛ لا عرفا ولا قانونا. على أن الأهم من ذلك كله هو تسوية العلاقة الداخلية على أسس أكثر انسجاما، فما من مسار يمكن أن يكون ناجحا، مع صف منقسم، والتماسك لن يحدث من دون تنازلات من الأطراف لبعضها البعض، وتجاوز عقد الشخصنة والفئوية التي تسببت بكل المشكل الراهنة. خلاصة القول هي أن الطريق ليس مغلقا تماما، فكثيرا ما تمر الجماعات السياسية بمآزق كبيرة، لكنها ما تلبث أن تعبرها، وحين تكون الرياح عاصفة، فإن الصبر هو العدة، بانتظار أوضاع أفضل، ومن يقرأ التاريخ سيجد من هذا الكثير، مع العلم أن أحدا لا يمكنه إلغاء تيار سياسي له جذوره في المجتمع مهما حاول، ولن يكون بوسعه سوى التعايش معه على هذا النحو أو ذاك. التدافع هو سنة الحياة؛ كان وسيبقى. المهم هو أن تستفيد الجماعات من تجاربها، ومن تجارب الآخرين، وألا يواصل أهل القرار فيها دفن الرؤوس في الرمال، بخاصة بعد أن ثبت أن هذه السياسة الأخيرة، هي العامل الأكبر في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه.
(الدستور 2016-05-14)