أجيال غير قادرة على النسيان
منذ الخامس عشر من ايار عام 1948وأنا اقف خارج مساحة الطفولة التي يفصلني عنها جدار الحنين البعيد. ولكن لا ولن أنسى أول الرحيل ، ولا أحد ينسى ، وان هرمنا. في مثل هذا اليوم من كل عام يهز ذاكرتنا الزلزال ، كي لا ننسى. لقد راهن الاسرائيليون على الزمن ، وعلى مقولة :» الكبار يموتون والصغار ينسون «.
في هذه الذكرى ، وهذه المرة ، لن نكتب البكائيات ، ولن نقيم مهرجانات اللطم على الماضي ، لأن دموع اليوم لا تشبه دموع الامس ونكتفي بدعوة الصامدين الى البقاء في الداخل فحسب ، في غياب الخيارات الاخرى ، لأن البقاء في البيت وعلى الارض وحرثها هو الصمود ، وادامة الصراع يعني بقاء القضية في الذاكرة وفي الوجدان وفي دائرة الضوء ، رغم الواقع العربي الذي لا يبشر بخير ، ولا يبعث على التفاؤل ، وهو الواقع الطافح بالنوايا الحسنة والنتائج السيئة.
اليوم ،عندما نطل من شرفة الحاضر العربي لا نرى سوى العتمة وجفاف المخيلة على امتداد الصحراء. وفي هذا اليوم تريد اسرائيل احتلال التاريخ ، وانتزاع القضية الفلسطينية من الذاكرة العربية لتعلن انتهاء الصراع العربي الاسرائيلي ، وتحويل الشعب الفلسطيني بالداخل الى لاجئين في ارضهم ، وبالتالي اقامة الدولة اليهودية كوطن لكل اليهود ، في ظل الصمت العربي والتواطؤ الدولي.
لذلك نقول أن البقاء في الداخل هو صمود ، والانتظار صمود فهم ينتظرون لحظة انتصار عربي في زمن ما ، ايضا التصدى للجدار والتهويد والاستيطان هو صمود، لأن الحكومة اليمينية المتطرفة في اسرائيل أدارت ظهرها لكل الاتفاقيات والمعاهدات ، بل تجاوزت قوانين الشرعية الدولية ، فقامت ، ولا تزال ، بمصادرة الاراضي والبيوت ، وبناء المستوطنات ، كما تقوم بمداهمة واجتياح المدن والقرى والمخيمات وتعتقل من تريد ، حتى الاطفال ، وفي اي وقت تشاء ، كسلطة احتلال اطلقت العنان لجنونها.
اسرائيل قوية مدججة بالسلاح والتوراة والخرافة ، والسلطة الفلسطينية مسلحة بغصن الزيتون يفترسها الاغتراب ، وتعاني من الانقسام الذي ابعد قطاع غزة عن الضفة ، في ظل غياب عربي مشلول مشغول بسفك الدماء التي لها لون عتمة الماضي. لذلك لاشيء يبعث على التفاؤل ، فالقضية الفلسطينية في حالة من الالتباس والغموض غير مسبوقة ، وتحجبها عن الشمس ملايين الخناجر ومواكب القتلى وأرقام الجرحى ، ونهر الدم الذي يتدفق من اقصى المغرب العربي الى أدنى المشرق ، وبعدها يغيب عشاق القدس في غروب لا لون له ، بسبب ارتباك الموقف العربي المازوم.
هذا المشهد انعش حكومة اليمين في اسرائيل فالتقطت اللحظة التاريخية لاحياء مشروعها الصهيوني التوسعي الكبير، واغتالت حل الدولتين ، وهي تعيش حالة نكران ، بحيث باتت لاتقبل باستئناف التفاوض ولا بعقد مؤتمردولي من اجل الحل ، حتى رأينا عنجهية نتنياهو تقوده الى توجيه الانتقادات لقادة فرنسا بشدة ووقاحة احتجاجا على مبادرة السلام الفرنسية والدعوة لعقد مؤتمر باريس. وفي اللحظة التي وصل فيها وزير الخارجية الفرنسي للقاء نتنياهو حول مبادرة السلام نشرت وسائل الاعلام الاسرائيلية خبرا يفيد ان الرئيس هولاند اضطر الى الاعتذار لاسرائيل بسبب تصويت فرنسا لصالح فلسطين في اليونيسكو.
في النهاية قد تكون صورة الواقع قاتمة حالكة السواد بلون الرايات التي يرفعها اهلنا في ذكرى النكبة فوق الخيام وبيوت الصفيح ، ولكن يبقى الامل في البقاء والصمود والصبر ، لأن اسرائيل ما زالت تعاني من ازمة وجود ، وهي تحتاج الى كم زائد من النسيان الفلسطيني والتجاهل العربي ، فهي لم تحصل على القدر الكافي من النسيان حتى الآن ، على الرغم من التيه في صحراء النكبات. فالاسرائيليون يدركون أن لا أحد يريد ان ينسى ، فالاجيال تتناسل لتحمل اسمها وهويتها وقضيتها ، ويتصدون لقوافل النسيان بهذا الحجم من القهر القادر على احياء الذكرى وانعاش الذاكرة.
(الرأي 2016-05-16)