عن النكبة وعن فلسطين التي تزداد حضورا في الوعي
لست مغرما بالكتابة في هكذا مناسبات (النكبة والنكسة وما شابه)، لكنني أشعر أن الأمر يستحق هذه المرة؛ بخاصة أن هناك من ينعى القضية في ظل الحريق المشتعل في المنطقة، كأنه هو السبب في كل شيء، متجاهلين أن المسار الحالي للقيادة الفلسطينية هو ذاته قبل ربيع العرب وبعده، وهو السبب الأكبر لحالة التيه الراهنة، قبل أي عامل خارجي. ربما نحتاج دائما إلى استعادة الذكرى، لسبب بسيط هو أن الجزء المحتل من فلسطين في هذا التاريخ لم يعد منها بحسب الخطاب السياسي العربي والفلسطيني الرسمي؛ وهي مفارقة في غاية البؤس في سياقها الفلسطيني، فمن أسسوا منظمة وحركة؛ ثم حركات لتحرير هذا الجزء من فلسطين، ما لبثوا أن تركوه للعدو، لكي يطالبوا بالجزء الذي تم احتلاله بعد ذلك. بعيدا عن توزيع التهم والمسؤوليات التي تتولى كبرها إلى جانب قادة منظمة التحرير الفلسطينية، أنظمة عربية خضعت للشروط الدولية، واعترفت بقرارات ما يسمى الشرعية الدولية، فإن المشهد الفلسطيني يحتاج وقفة جديدة في ظل هذه المناسبة التي ينبغي أن تذكّرنا جميعا بقضية فلسطين وفق جذورها التاريخية بعيدا عن التنازلات المخزية التي قدمت ولا زالت تُقدم دون ثمن. في مناسبة مرور 68 عاما على نكبة فلسطين وشعبها، ألا يستحق هذا المسلسل البائس منذ العام 67 ولغاية الآن إلى وقفة تأمل ومراجعة؟ الجواب هو نعم، لكن الذين يُمسكون بقرار القضية لا يريدون أن يراجعوا شيئا، وهم ماضون في ذات السياسة (سياسة تجريب المجرّب) دون توقف، ومن دون وجود أي أفق لإنجاز يحقق الحد الأدنى الذي قبل به العرب ممثلا في الحصول على دولة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشرقية، مع عودة اللاجئين (بل حتى بدون عودتهم)!! حين تسألهم عن المفاوضات، فإنهم لا يترددون في وصفها بالعبثية، لكنهم يعجزون عن الإجابة على سؤال لماذا يستمرون فيها على هذا النحو، ولماذا يواصلون تقديم التنازلات تلو التنازلات لعدو لا يلقي لهم بالا، ويواصل إذلالهم وحشرهم في الإطار الذي رسمه للقضية؟! لقد بات الحديث عن الدولة إياها بالمواصفات المذكورة أعلاه نوعا من الأغاني الوطنية التي تتردد دون أفق ولا جدوى، مع أن الأصل أن يتواصل الغناء لفلسطين، كل فلسطين، بدل أن يقول رئيس منظمة التحرير والسلطة وحركة فتح، إنه يتنازل عن بلدته صفد. لقد تبين بعد هذه العقود من الصراع أن الصيغة السياسية التي يعرضها العدو على الفلسطينيين لا تنتمي إلى الثوابت التي يتحدثون عنها (دعك من الثوابت الأصلية في تحرير فلسطين، كل فلسطين)، بل تنتمي إلى صيغة تخلّصه من عبء إدارة السكان الفلسطينيين، من دون التخلي عن القدس الشرقية، ولا عن الكتل الاستيطانية الكبيرة، بل حتى عن أجزاء كبيرة من الضفة الغربية (حدود الجدار). اليوم وفي مناسبة مرور 68 عام على النكبة والاحتلال؛ آن أن ينهض من بين أبناء الشعب الفلسطيني من يطالبون بإعادة القضية إلى جذورها الأولى كقضية وطن سُلب وشعب شرِّد بعيدا عن القرارات الدولية. حين يكون هناك احتلال، فلا بد مقاومة لذلك الاحتلال، وقد آن لمن يعوِّلون على مسار آخر أن يعودوا إلى شعبهم ليقولوا له إن الأفق مسدود، ويكفوا عن مساعدة الاحتلال بتكريس سلطة/دولة صُممت لخدمته، مع المضي عن وعي وإدراك في مسار السلام الاقتصادي أو الحل الانتقالي بعيد المدى أو الدولة المؤقتة. إنه السؤال الذي يُطرح أولا وقبل كل شيء على حركة فتح التي تحتضن هذا المسار وتدافع عنه، والتي تأسست من أجل تحرير الأراضي المحتلة عام 48، وإذ بها تنتهي إلى تنازلات مخزية عن أجزاءٍ مما احتل بعد سنتين من تأسيسها عام 65، كما كشفت ذلك وثائق التفاوض. لطالما عوّل الغزاة على أن الأجيال الجديدة ستنسى فلسطين، لكن واقع الحال هو أن فلسطين اليوم أكثر تجذرا، ليس في وعي أجيال الشتات، بل في وعي أبناء الأمة جميعا، وهي ستبقى ما دام هناك قرآن يُتلى. بل إن حضورها في وعي أحرار العالم بات واضحا أيضا، كما لم يكن من قبل. بعد 68 عاما من النكبة والاحتلال الأول، ها نحن نعلن تمسكنا بفلسطين كل فلسطين؛ من بحرها لنهرها، غير عابئين بكل التنازلات؛ يحملنا الإيمان ببسالة شعبنا، وحب الأمة لفلسطين نحو آفاق أخرى، ويمنحنا الأمل الحقيقي بالتحرير الشامل، ولو بعد حين.
(الدستور 2016-05-17)