النكبة: إرادة المال والفساد
لم تنشئ الحركة الصهيونية وطنا لليهود بفعل الخطابات أو الوعود؛ بل كانت لها أذرع اقتصادية ومالية، تجسدت فيها النوايا الفعلية لتحقيق ذاك الحلم الذي أمسى غصة في حلوقنا جميعا، وأطول احتلال معاصر يشهده عالمنا اليوم.
الوكالة اليهودية نشطت منذ مطلع القرن العشرين في جمع التبرعات من أثرياء اليهود والعالم، وتثقيف اليهود بضرورة تنفيذ الفكر الصهيوني؛ فقد كانت الوكالة بمثابة الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونية، وتكمنت من تشجيع الاستيطان الزراعي ونشر اللغة العبرية، ولم يسجل على نشاطها فساد يعكر صفو المسعى الإحلالي الذي ذهبت إليه الحركة بخطى راسخة.
أما الصندوق القومي اليهودي، فبدأ في العام 1901، عبر جمع الأموال من اليهود لشراء الأراضي في فلسطين، كي يتسنى إقامة المستوطنات وأحياء اليهود الخاصة. ومرت فائدة هذه الأموال، في النصف الأول من القرن المنصرم، بتحديات جسام، تمكن خلالها أثرياء اليهود من تذليل كل العقبات التي واجهت مخططاتهم، بما في ذلك تعقيدات تركة الدولة العثمانية ومحاولات العرب والفلسطينيين رفض بيع الأراضي، وصولا إلى شراء ذمم الساسة والدبلوماسيين خارج منطقة الشرق الأوسط. وساند "الوكالة" و"الصندوق" في المخططات ذاتها "الهستدروت"، الذي كان اتحادا لجميع الفلاحين والعمال، ولاعبا أساسيا في ترسيخ الاستيطان كحقيقة منذ العشرينيات.
في مقابل هذا الجهد المالي، كان العرب يغوصون في التشتت والارتجال. ويذكر شهود عيان لفجيعة النكبة أن بعض القرى الفلسطينية كانت تملك بندقية قديمة، وبحوزة حامل البندقية الوحيد ثلاث طلقات. وفي التاريخ ما يدعو للخجل والتأمل، فالجيش المصري الذي قرر قبل أسبوعين فقط المشاركة في حرب فلسطين، تحديدا أواخر نيسان (أبريل) 1948، شارك بأسلحة فاسدة لا تصلح للاستعمال. وقد برأ القضاء آنذاك القصر الملكي من تهمة التورط في هذه الأسلحة، كما برأ لاحقا في 1953 - عددا من قيادات الجيش المتورطة في هذا الفساد الكبير.
وعلى الجهة المقابلة، كانت هناك بطولات لرجال صدقوا فلسطين وأهلها، إلا أنهم تحركوا في ظروف لوجستية قاسية، وأوضاع مالية عسيرة. ففي نيسان (أبريل) 1948، كان الشهيد محمد الحنيطي قائدا لحامية حيفا، وبعد نفاد السلاح اضطر بنفسه للسفر من حيفا إلى بيروت لجلب القليل من السلاح المتاح والعودة به في طريق مليئة بالألغام والكمائن. ووصل إلى عكا وقيل له إن الطريق مليئة بالأخطار وصولا إلى حيفا. لكنه كان يقول: إن لم أعد بالسلاح إلى حيفا فإنها ستسقط خلال يومين. فمضى في طريقه رحمه الله ليستشهد في أحد الكمائن اليهودية قبل وصوله إلى المدينة التي خاطر بروحه من أجلها.
ذاك تاريخ النكبة بتفاصيله القديمة. والحال اليوم ليست أفضل لدى مقارنة القدرة المالية والاقتصادية وتحقق الإرادة تبعا لذلك. فإسرائيل التي احتلت المرتبة الثانية عالميا قبل سنوات في صناعة التنكولوجيا عالية الدقة، تتطلع لأن تكون دولة عظمى في مجال الابتكار والبحث العلمي بحلول العام 2024، عبر استثمار الأدمغة، بينما يغرق الواقع الفلسطيني بتبعيته للاقتصاد الاسرائيلي.
النكبة ليست مساحة للادعاء والمزاودات، إنها ذاكرة مفتوحة للتعلم الاقتصادي وسواه من دروس الماضي؛ كيف فازوا ولماذا خسرنا؟
(الغد 2016-05-18)