المانيا والادانة المُزدوجة !
ما من حضارة بلغت ثقافة الاعتذار بالمجان، فهي حصيلة تراكم لمعارف وفلسفات وفنون ترتقي بالانسان بحيث لا يعود عبدا لغرائزه وخلايا دماغه الزواحفية، ومن تأخذهم العزّة بالاثم ولا يعتذرون رغم ما اقترفوا من اخطاء وخطايا هم الذين لم يخرجوا بعد من المدار الحيواني، فالنرجسية تصيبهم بالعمى ويتوهمون بأنهم يحتكرون الحقائق . ومناسبة هذه التداعيات التي تبدو في ظاهرها خارج السياسية هو ادانة البرلمان الالماني بالأغلبية لتركيا بسبب ما يُعرف بالابادة الشاملة للأرمن قبل قرن من الزمن، وما استوقفني ليس فقط ادانة المانيا لتركيا، بل ادانتها لنفسها ايضا لأنها صمتت اثناء تلك المجازر، فالصّمت في مثل هذه الحالات تواطؤ بل مشاركة في الجريمة . بالطبع جاء رد الفعل من تركيا ومن رئيسها اردوغان سريعا ومنفعلا ولم ينتظر الرئيس حتى يعود الى بلاده فأعلن من كينيا التي يزورها ان هذا الموقف من المانيا يعدّ استفزازيا لأن مثل هذه القضايا التاريخية تحتاج الى فحص دقيق واستقراء معمّق، وما تقوله تركيا في هذا السياق عبر مختلف المناسبات هو ان ما حدث كان حربا اهلية وان تركيا فقدت ايضا مئات الالاف فيها، فهل كان الامر كذلك فعلا ؟ وهل انتهت تلك الكارثة الى تعادل بين الإرمن والاتراك ؟ الاجابة على هذا السؤال تتفاوت من مواقف راديكالية مضادة للأطروحة التركية الى مواقف اقل جذرية، لكن الاتراك انفسهم من يتبنى الموقف الالماني، ومنهم الكاتب الحائز على جائزة نوبل باموق الذي سارت مظاهرات في انقرة ضده رغم فوزه بالجائزة واستحقاقه الاحتفاء لا الشجب. اما ادانة الالمان لأنفسهم فتلك هي المسألة الجديرة بالتأمل، ولو فعلت ذلك دول اخرى اقترفت جرائم ابادة لكان العالم اقل توترا مما هو عليه اليوم . ان ثقافة الاعتذار هي من افراز ثقافة اشمل هي ثقافة النقد الذاتي والمراجعة وعدم ادعاء المعصومية !!
(الدستور 2016-06-05)