من «برلين» الى «منبج».. ماذا تبقّى لأ نقرة من «هوامش»؟
تواجه الدبلوماسية التركية مأزقاً كبيراً يمكن وصفه بلا مبالغة بأنه «الطريق المسدود», لا يسمح لساكن القصر الابيض والمقصود هنا الرئيس اردوغان, بما هو المُمْسِك بالسياستين الداخلية وخصوصاً الخارجية, بمزيد من هوامش المناورة او استخدام ما تبقى لديه من اوراق, لم تعد صالحة للاستخدام او التداول, ما يفرض عليه اللجوء الى خيارين احلاهما علقم, كأن يُقدِم على استدارة كاملة يقطع فيها مع سياساته التي دأب على ممارستها طوال السنوات الخمس الماضية (أي تلك التي اندلع فيها ما يوصف زوراً بالربيع العربي) وخصوصاً في سورياً, ما يعني اللجوء الى مراجعة جذرية وعميقة تأخذ في الاعتبار «حصاد» تلك السنوات التي يمكن وصفها بالحصاد «المُرّ», أم يواصل السياسات ذاتها التي تعني ذهابه الى نهاية الشوط, بكل ما يحمله ذلك من مخاطر واحتمالات لزيادة طوق العزلة حول انقرة وانعكاسات ذلك على الداخل التركي وخصوصاً المستقبل السياسي للرئيس اردوغان والاحتمالات الواردة لانفراط عقد الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وتعرُّضِه لانشقاق أو قيام العناصر القوية فيه (والتي لم تقل كلمتها بعد) بعملية تطهير واسعة تطال جناح اردوغان الذي لا يتردد كثيرون في وصفه بأنه «جناح اخواني» بكل ما يعنيه هذا المصطلح من ميل اردوغان للالتحام مع فكر وعقيدة جماعة الاخوان المسلمين.
ما علينا..
ظن اردوغان انه بالاعلان عن «الخط الأحمر» الذي رفعه في وجه كُرْد سوريا وخصوصاً قوات سوريا الديمقراطية, بعدم العبور الى منطقة غربي الفرات, اي عدم سماحه بوصل المناطق التي تسيطر عليها قوات حماية الشعب (YPG) مع مناطق عفرين ولاحقاً جرابلس, كي لا تكتمل سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYO) على الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا, فإنه قد لجم اندفاعة الكرد وأفهم واشنطن الداعم الرئيسي لهم ,بأن تركيا لن تقبل بقيام «اقليم كردي» بينها وبين سوريا, وإلاّ فإنها ستقلب الطاولة على الجميع.
لم يلبث اردوغان ان خسر رهانه بعد أن أدار الاميركيون «لعبة» مُحْكَمة الادوار والتوقيت, ليس فقط في الاعلان عن حملة لتحرير مدينة «الرقة» كمعقل استراتيجي لداعش, بل وتحوّل هذه المهمة الى مدينة «منبج» التي يعني قرار الذهاب اليها «كسر» الخط الاحمر التركي وعبور قوات «الكرد» الى غرب نهر الفرات, ما يجعل من مسألة الوصل بين كوباني وعفرين امراً واقعاً, لتكون أعزار تالياً في مرمى «الهدف» الذي سيطيح حسابات اردوغان او يجبره على مواصلة المُكابرة والزعم ان القوات التي عبرت الفرات غرباً هي «عربية» قوامها 2500 مقاتل فيما الكرد يزيدون على 450 عنصراً وهو كلام غير صحيح كما يقول المراقبون وكما تقول الوقائع الميدانية حول منبج.., او–وهذا خيار ثان واخير–ان يغتنم اردوغان الفرصة (..) لإعادة مراجعة مواقفه والتراجع ولو قليلاً عن «ثوابته» التي ادت الى خسائر بالجملة, إن في علاقاتها المُتردية مع معظم دول الاقليم بما فيها الاتحاد الاوروبي الذي «نسف» خطته القائمة على النفاق والابتزاز والمتجسدة في اتفاقية الهجرة التي عكست تنكر الطرفين للشرعية الدولية ولشرعة حقوق الانسان والمتاجرة بمآسي اللاجئين واحزانهم, لكن حسابات اردوغان لم تتطابق وحسابات اوروبا الاستعمارية, التي تفوح منها رائحة النفاق والكذب وادارة الظهر لكن ما تُنادي به زيفاً حول الحريات وحقوق الانسان والقانون الانساني الدولي.
ثم تأتي الضربة الموجعة (على رمزيتها) والمتمثلة في تصويت البوندستاغ الالماني بالإجماع على وصف ما حدث للآرمن قبل 101 سنة (25 نيسان 1915) بالابادة الجماعية حيث اضافوا على النص «ما تعرض له الآرمن والمسيحيين الآخرين» لتضيف الى متاعب سياسات اردوغان فشلاً آخر، يسهم في تضييق هوامش مناوراته, يدفع به الى حسم خياراته التي هي ضيقة كما أسلفنا, فإما مراجعة تقطع مع سياسات ثبت فشلها او المضي بها حتى النهاية, ما قد يأخذه الى حروب ومواجهات عسكرية وسياسية واقتصادية، يصعب الفوز فيها ما دامت واشنطن التي تقول انقرة علناً انها على خلاف معها حول قضايا عديدة، قد حسمت أمرها وقالت ان قوات سوريا الديمقراطية ليست ارهابية وانها متى حرّرت «منبج» فانها ستنسحب منها (...) وتسلمها لادارة ذاتية من اهاليها.
أن يُعيد رئيس وزراء تركيا الجديد بن علي يلدريم, انتاج مقولة سلفه داود اوغلو الشهيرة «صفر مشاكل» بعبارة «اصدقاء اكثر واعداء اقل» يعني ان شيئاً ما في طريقه الى الحدوث في سياسات تركيا,سيكون من المبكر التكهن به او الرهان عليه، لكن استقالة رئيس المخابرات القوي حاقان فيدان واعادة قرار ارساله سفيراً الى اليابان، بعد ان رفضها اردوغان سابقاً, يعني ان ثمة ما يلوح في افق الدبلوماسية التركية اذا ما «فَرَضَ» اردوغان انتخابات برلمانية جديدة, لتمرير مشروعه تحويل النظام البرلماني الحالي الى نظام رئاسي.
لا بد من الانتظار.. خصوصا ان صفقة «التطبيع» مع اسرائيل, توشِك على «الإنضاج» ولن يرفع نتنياهو الحصار عن غزة, ما يعني فشلا اخر يضاف الى سلسلة إخفاقات»أردوغانية» موصوفة.
(الرأي 2016-06-05)