هجاء الصائمين ورمضان كتقليد سنوي
في كثير من الصحف ووسائل الإعلام، وتقريبا في كل عام، تنحصر قضايا رمضان وصورته العامة في أخبار الأسواق وارتفاع الأسعار، وتبعا لذلك هجاء الناس الذين يحولون شهر العبادة إلى شهر الطعام والشراب. والحق أن الصورة لا تبدو بهذا السوء الذي يروجه كثيرون بحسن نية أو بغير ذلك، ومن ضمنهم أئمة مساجد يندمجون في الدور ويكررون المعزوفة ذاتها حول الولائم “العامرة” التي يتلوها إلقاء الطعام في حاويات القمامة، ولو ذهبت إلى بيت أي أحد من هؤلاء وهؤلاء، بمن في ذلك سائر الناس الذين يمارسون الهجاء لسواهم، لما وجدته يختلف عن معظم البيوت من حيث الاهتمام الذي يزيد عن الأيام العادية بالطعام والشراب. هل يزداد استهلاك الناس من الطعام والشراب في رمضان بالفعل؟ هذا صحيح بقدر ما، لكنه بالتأكيد ليس بالصورة التي يجري ترويجها في الصحف والمنتديات. نعم يزداد إقبال الناس على شراء واستهلاك الطعام والشراب، لكن ذلك ينتج عن واقع أن الناس يأكلون وجبتين داخل البيت، الأمر الذي لا يحدث في سائر أوقات السنة، ففي الأيام العادية يأكل الناس في أماكن عملهم ويشربون، بدليل آلاف المطاعم التي تعمل طوال العام باستثناء رمضان، وإذا عملت في رمضان ففي وقت محدود، وكذلك الحال فيما يتعلق بالشراب. لا ينفي ذلك بالطبع وجود أناس يبالغون في تلوين موائدهم بأصناف شتى من الطعام والشراب أكثر من الشهور الأخرى، لكن الموقف غير ذلك بالنسبة للغالبية من الناس الذين قد يحسّنون وجباتهم بقدر ما، ربما تبعا لاجتماع الأسرة بكاملها في جو خاص لا يتوفر في سائر الشهور، تماما كما يحدث يوم الجمعة على سبيل المثال. هناك جانب يتعلق بالعزائم والولائم، وهذه ميزة من ميزات هذا الشهر الذي يصل الناس فيه أرحامهم ويتواصلون بشكل جيد، الأمر الذي يستحق الثناء لا الهجاء، خصوصا وأن الكرم ليس عيبا ما دام لا يدخل إطار الترف والسرف والخيلاء. هناك أوجه كثيرة لهذا الشهر العظيم تغيب في كثير من أحاديث الناس ووسائل الإعلام، وللأسف في بعض خطب المساجد، أعني وجه الخير والعطاء الذي يفيض به الناس على بعضهم البعض، لا سيما الأغنياء منهم على الفقراء، ولا شك أن حجم الإنفاق في وجوه الخير في هذا الشهر هو الأكبر على الإطلاق، وبعض الفقراء ينتظرونه طوال العام، من دون أن يعني ذلك انعدام الخير في بقية الشهور. في هذا الشهر يكون التراحم في أفضل حالاته، ما يدل على أن كثيرا من الناس يفهمون الصوم على حقيقته كصانع للتقوى التي تفيض على الجوارح بأعمال خير كثيرة، ولا يفهمونه فقط نوعا من الطقوس المفرغة من المضمون. نعم، هناك أناس كثيرون يؤثر الصيام فيهم تأثيرا عظيما من حيث السلوك، كما أن هناك من يتخذونه موسما للعبادة والتقرب إلى الله بسائر أشكال الخير، بدليل المساجد التي تزدحم بالمصلين، من دون أن نعدم آخرين لا يأخذون منه سوى طقوس لا علاقة لها بجوهره الحقيقي. صحيح أن كثيرا من التدين المذكور يأخذ الطابع الفردي، لكن الموقف ليس بالسوء الذي يصوره كثيرون، أعني من حيث تأثير هذا الشهر الكريم في الوعي الجمعي للناس. لا يعني ذلك رفضا للانتقادات التي توجه، ولكن تركيزها على نحو يشطب الجوانب الإيجابية ليس من الحكمة في شيء. وفي الحديث “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” (بضم الكاف في رواية، أي أكثرهم هلاكا، وبفتحها في أخرى، أي ساهم في إهلاكهم).
(الدستور 2016-06-19)