القسوة: الظاهرة الإنسانية الأشد فظاعة
تعرّف كاثلين تايلور، أستاذة علم الأعصاب بجامعة أكسفورد، القسوة في كتابها "القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري"، بأنها إلحاق الأذى المعنوي أو الجسدي أو النفسي بأشخاص أبرياء لا يستحقون هذا الإيذاء. وتندرج في هذا التعريف منظومة هائلة من أنماط الأفعال والسلوك؛ تبدأ بما يجري في الحياة اليومية والمؤسسات والشوارع والأسر، وتصل إلى جرائم الإبادة والعقوبات الجماعية بحق فئة من الناس.
ويبدو المفهوم (القسوة) لكثرة استخدامه في اللغة اليومية، فعلا عاديا. لكنه في الحقيقة فعل شرير، يحتاج كل إنسان أن يخلّص نفسه منه. إلا أن الأكثر أهمية في فهم "القسوة"، هو أنها قد تفسر التطرف الديني والقومي والأيديولوجي الذي يكتسح عالم العرب والمسلمين، ويشغل العالم ويقلقه أيضا. ذلك أن التطرف بما هو محاولة تطبيق أيديولوجيا على الناس، أو معاقبتهم باسم الأيديولوجيا على أفعالهم، أو إجبارهم على فعل، هو نوع من القسوة وأفعال الشرّ. وأستخدمُ قاصدا مصطلح "الأيديولوجيا" ليشمل التطرف بكل أنواعه واتجاهاته، سواء كان دينيا أو سياسيا أو قوميا أو طائفيا. ويميز أيضا بين الخطاب الأيديولوجي والتطرف الأيديولوجي؛ فالخطاب هو نموذج تطبيقي لفكرة أو فلسفة، وبما هو خطاب فإنه يحمل بنيويا الإقرار باحتمال خطأ الذات وصواب الخطاب الآخر، بعكس التطرف الذي يرفض احتمال خطأ الذات وصواب الآخر. فالخطاب عقلاني، والتطرف معتقدات وأفكار ومشاعر لا يقبل أصحابها المساس بها ويرفضون أن توصف بالخطأ، بل ويحاسبون على أساسها الناس ويصنفونهم. ووفق هذا المفهوم، فإن القسوة والتطرف حالة مَرَضِيّة تعكس الفشل أو الاضطراب العقلي والنفسي.
تجادل تايلور -ويبدو هذا منطقيا ومتقبلا- أن القسوة ليست شأنا يخص المجانين أو من يولد شريرا بالفطرة، بل من الأرجح أن كثيرا من السلوك الذي يتسم بالقسوة سلوك منطقي نابع من العقل؛ أي إنه يُرتكب لأسباب تبدو وجيهة وسليمة في رأي مرتكبها وقت الفعل. فمن السمات المؤذية في طبائع البشر، ميلهم إلى تصنيف "الآخر" ليس فقط في أوقات ومجريات المحن الكبرى، ولكن كرد فعل على تحديات ضئيلة وأمور بسيطة في محيطنا الاجتماعي، قد نعتبرها -نحن- تمس مقامنا أو كرامتنا وإحساسنا بالاعتزاز والفخر. ما نزال نميل إلى، بل نريد إنزال الضرر بالغير. وأحيانا، يبلغ الضرر درجة الإبادة الجماعية، ذلك فقط لأنه تحكمنا معتقدات تجاه غيرنا من الناس تدعونا إلى اعتبارهم طائفة تستحق الكراهية.
توصف الكيانات المعادية بالشرّ؛ بأنها كائن شرير معاد يهدد وجودنا وأشخاصنا، لا نستطيع أن نفعل شيئا يجعله يغير من سلوكه، كائن خطير ليس مثلنا، يهدف إلى الإيذاء والضرر والتدمير، ومسؤول أخلاقيا عن أفعاله. ولأن التهديد الذي يمثله هذا الكيان قاس وشديد، فلدينا ما يبرر اللجوء إلى أن نبطل أو نقضي على هذا التهديد.
ويلزم هنا التمييز بين القسوة والعدوان والعنف. فكلمة "عنيف" تصف سلوكا، وتذكرنا بتأثيرات الفعل السريع؛ القوة، والقدرة البدنية، والقدرة على التدمير. أما كلمة "عدوان"، فتعبر عن النية والقصد بالاعتداء. لكن "القسوة" غالبا ما تتضمن العنف المتناهي. والقسوة تنشأ في مواقف معينة، ولكنها لا تكون أبدا عشوائية أو من دون تمييز، إلا ربما في حالات الاضطرابات العقلية الشديدة. والقسوة تحكمها الظروف، مثلما تحكمها الشخصية. والناس سيستمرون في اقتراف القسوة في مواقف معينة.
إن ما يجعل القسوة بالغة الفظاعة، وما هو أكبر من الإيذاء الحسي والمعاناة، هو تجريد الإنسان من آدميته والتجرد من المعاني الإنسانية. وإذا شعر مرتكب السلوك، حتى لو كان عادلا أو مبررا، بالمتعة في الإيذاء، فإن سلوكه يعتبر شيئا بغيضا. وفي مرتبة الشرور تتفوق السادية وتعلو على غلظة القلب، وتجسد الدرك الأسفل والأفظع من وحشية الإنسان.
(الغد )