دعوة العشاء الأخير في ميونيخ !
في الساعات الاولى التي اعقبت عملية ميونيخ كان المجال مفتوحا على سعته للخيال السياسي، فعلى بُعد أيام قليلة من عيد مدينة نيس الذي تحول الى مأتم لم يخطر ببال احد ان فتى في الثامنة عشرة مصابا بخلل نفسي سوف يقتل عشرة اشخاص وينتحر ليكون الحادي عشر، والشرطة الالمانية انتهت الى ان هذا الشاب ليس من قطيع ذئاب الارهاب كما انه ليس ذئبا منفردا بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح، فقد قام قبل تنفيذ عمليته بدعوة عدد من الشبان الى وجبة عشاء على حسابه شرط ان لا تكون باهظة الثمن، ولعل هذا الشرط الذي اضافه دفع بعض ضحاياه الى التعامل بجدية مع دعوته، وانتهى الامر الى ذلك المشهد الدموي الذي كان ضحاياه من المدنيين العُزّل والذين اصابهم رصاص مسدسه عشوائيا . ما يغيب عن مثل هذه الانباء هو البعد غير السياسي وغير الايديولوجي، فالمجرمون في العالم كله وبمختلف العصور ليسوا متجانسين من حيث الدوافع والتكوين النفسي، لكن ما يجب ان يستوقفنا في عملية ميونيخ هو المناخ العالم الذي تبثه الميديا بكل اللغات، إذ لا يمر يوم دون انباء عن القتل والتشريد، وكأن هذا المناخ تلوث بفيروسات من طراز آخر، واصبحت عدوى العنف قابلة للانتقال من مكان الى آخر . وأخطر ما انتجه العنف المعولم والعابر للحدود والاجناس هو تحول الانباء الصادمة والاستثنائية الى انباء مألوفة، حيث اصبح العالم يتلقى هذه الانباء بلا مبالاة ولا فرق بين نشرة منقعة في الدم وبين نشرة الاحوال الجوية . ان دور المناخ المشبع بالاخبار عن العنف والقتل يجب عدم اغفاله، تماما كما ان افلام الاكشن وحّدت من يقلدونها والناس في ايامنا يستمدون ثقافتهم على مدار الساعة من الشاشات . الشبان الذين اخترقت اجسادهم رصاصات عمياء لم يتناولوا العشاء الموعود، والذي كان سيكون عشاءهم الاخير . ان المقاربات الرائجة والاكثر تداولا لمشاهد العنف تحتاج الى اعادة نظر ومراجعة، ويجب ان يكون للاخصائيين والخبراء في علمي النفس والاجتماع رأي في ذلك، لأن السطح الدموي لمشاهد العنف ليس سوى الجزء الطافي من جبل الجليد في محيط من الدم وليس الماء !!
(الدستور 2016-07-25)