الديمقراطية جهاز مناعة ضد الإنقلابات
صحيح أن الديمقراطية هي نقيض الديكتاتورية, ولكن للديمقراطية ديكتاتوريتها الخاصة, والتي يمكن أن نسميها بديكتاتورية الديمقراطية وهي التي تأخذ شرعيتها من صندوق الإقتراع, ولو كانت بأغلبية بسيطة جدا من الأصوات, وربما لا تصل هذه الأغلبية إلى نسبة 50,1%. وحسب رأيي, من لا يؤمن بديكتاتورية الديمقراطية, فهو ليس ب"ديمقراطي", ويمكن تصنيفه من زمرة الذين يريدون أن يفسروا الديمقراطية على حسب هواهم, وتحريفها وتوجيهها كما يشاؤون, وهذا ما حصل أثناء إنقلاب السيسي على الشرعية التي أعطاها الشعب المصري للرئيس محمد مرسي.
من المعروف بأن أسوأ نظام ديمقراطي, هو أفضل من أحسن حكم عسكري في العالم. ومن يتذوق طعم الديمقراطية الحقيقية لمرة واحدة, فلن يرضى بأن يعيش تحت حكم ديكتاتوري مرة أخرى, مهما كان هذا الحكم منمقا بعبارات رنانة وشعارات طنانة, لأن حقيقته تتعارض مع القيم الإنسانية وظاهره خادع.
من تجربتي الشخصية, وعندما قررت الحكومة الألمانية في عام 1997 إعادة حوالي 300.000 لاجيء إلى كوسوفو, والذين كان أغلبهم من الشباب, أصريت على أن أذهب بنفسي إلى كوسوفو, كنائب مختص في شؤون اللاجئين, وأرى الوضع هناك بأم عيني, لأنني كنت دائما أحذّر الحكومة الألمانية من هكذا عمل, لأنه سيساعد على إندلاع حرب أهلية في كوسوفو, والتي ستكون نتائجها وخيمة أكثر من الحرب البوسنية التي سبقتها.
أول لقاء كان لي في مدينة "برشتينا", عاصمة كوسوفو, مع رئيسها الراحل, السيد إبراهيم روغوفا Ibrahim Rugova , ومن جملة الحديث معه, ذكّرته بخطاب ألقاه أمام الجالية الكوسوفارية في ألمانيا, والتي دعا من خلالها المواطنين الكوسوفاريين المقيمين في ألمانيا إلى الرجوع إلى كوسوفو. طلبت منه بأن لا يدعو الشباب إلى الرجوع إلى كوسوفو, وأفصحت له عن تخوفي, بان هؤلاء الشباب في حالة رجوعهم إلى كوسو, سيكون أول شيء يقومون به, هو حمل السلاح للدفاع عن حريتهم وكرامتهم وأهلهم, لأن هؤلاء الشباب ذاقوا طعم الحرية والكرامة والديمقراطية في ألمانيا, ولن يرضوا بالذل والتفرقة والتمييز الذي طبّقه عليهم النظام الصربي في بلغراد آنذاك. وقلت له بأن ترجيع هؤلاء الشباب إلى كوسوفو سيكون له تأثيرا سلبيا كبيرا على حالة التوتر السائدة في يوغسلافية السابقة, وذلك كمن يصب الزيت على النار, وبهذا ستشتعل حرب أهلية, ربما ستكون نتائجها وخيمة جدا, وهذا ما حصل في النهاية.
عند الرجوع إلى المحاولة الإنقلابية الفاشلة في تركيا, نجد بأن الإنقلابيون في مخططاتهم قد حسبوا حساب كل شيء, إلى حد أنهم ظنوا, بأن نسبة الفشل في عملهم الإنقلابي صارت تقارب الصفر في المئة, ولكنهم نسيوا بأن يأخذوا شيئا هاما بعين الإعتبار, ألا وهو طعم ولذة الديمقراطية التي يتمتع بها الشعب التركي منذ حوالي خمسة عشر عاما على الأقل, وأن الأغلبية الساحقة للشعب التركي ليست على إستعداد أن تتخلى عن مكاسبها التي دفعت ثمنها الكثير من الدم والجهد الهائل, ولو مهما كلّف الثمن. هذا العامل كان له دورا كبيرا في إفشال المحاولة الإنقلابية في تركيا, وربما كان أهم سببا لذلك, لأن الشعب التركي عرف ما معنى الحرية والديمقراطية وكذلك تنعّم برفاهية الحياة والمستوى المعيشي العالي الذي يضاهي مستوى المعيشي في الدول الأوربية الغنية.
الشعب التركي لن ينزل إلى الشارع فقط لأنه يحب الرئيس رجب طيب أردوغان, أو لأنه إنتخبه كرئيس له بنسبة 52% , بل هو نزل إلى الشارع, وبصدور مفتوح يواجه بها رصاص العسكر, ومنهم من رمى بنفسه أمام دبابات الإنقلابيين لكي لا تمر, من أجل الدفاع عن مصلحته الخاصة ومكتسباته التي حصل عليها في السنوات الأخيرة.
من خلال التجربة التي عشناها مع الإنقلاب الفاشل الأخير في تركيا, تبيّن لنا بأن الذي يحمي الديمقراطية هو الشعب الحر وليس الجيش, ولهذا فإن الرئيس الذي يتم إنتخابه من أغلبية الشعب, لا يحتاج لا لجيش ولا لمرتزقة من الخارج لكي تحميه.
للأسف يوجد الكثير من الأنظمة التي تحاول أن تخفي ديكتاتوريتها بواسطة ثوب ديمقراطي برّاق, وتزيده تمويها, عندما تضع في إسمها كلمة "الديمقراطية" مثلما عملت ألمانيا الشرقية سابقا والتي كان اسمها الرسمي "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" وكذلك كوريا الشمالية والتي أسمها "جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية" وكذلك اليمن الجنوبي سابقا والذي كان إسمه "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" بالإضافة إلى أنظمة ديكتاتورية كثيرة يحكمها حزب واحد.
إن كل العصابات الديكتاتورية الحاكمة في العالم وكذلك الذين يستفيدون من حكم العسكر, يروجون لهكذا أنظمة, ولا يخجلون حتى لو أنهم لحسوا البسطار العسكري ليلا نهارا تمجيدا للدكتاتورية العسكرية, وأفضل مثال على ذلك هو ما نعيشه كل يوم تحت حكم بشار الأسد في سوريا.
إن الأنظمة الدكتاتورية ستزول عاجلا أم آجلا, ومصيرها سينتهي على مزبلة التاريخ, وعلى كل من يريد أن يكون لديه جهاز مناعة لحكم بلاده ولإستقرارها ولمدة طويلة, أن يلتزم بالنظام الديمقراطي, رغم كل العيوب التي يتضمنها هذا النظام, لكنه جهاز مناعة مجرّب ضد كل فيروسات الإنقلابات العسكرية وما حصل في 15 تموز من هذا العام في تركيا هو أفضل مثال على ذلك.