استجواب تصفية الحسابات
تحول استجواب وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي إلى استعراض حقيقي، سيناريو معد مسبقا، وجمهور تفاعلي يشارك في الايهام. ولم يقف الأمر عن هذا الحد كما في الاستعراضات السابقة! فقد كانت ثمة استجابات سريعة من الدولة بأكملها، اذ أصدر رئيس مجلس الوزراء قرارا يقضي بمنع النواب والشخصيات التي ورد ذكرها في استعراض الاستجواب، ومن فرط سرعة الاستجابة لم ينتبه رئيس مجلس الوزراء، ومستشاروه، أنه لا يملك مثل هذه الصلاحية أصلا، وأن المنع من السفر يحتاج إلى قرار قضائي! كما لم ينتبه إلى أن السلطة التشريعية هي سلطة أعلى من سلطته بوصفه أحد أجنحة السلطة التنفيذية بموجب الدستور العراقي، ومن ثم لا يحق له إصدار قرارات تتعلق بها. كما أنه لم ينتبه ومستشاروه إلى أن ما جاء على لسان وزير الدفاع هي ادعاءات لا ترقى إلى ان تكون اتهامات موثقة وبالتالي لا يجوز اعتمادها من الناحية القانونية لمنع السفر أصلا!
ولم تقف الاستجابة على رئيس مجلس الوزراء، بل وجدنا المدعي العام العراقي، الذي ظل في سبات عميق طوال السنوات الماضية، ولم يتحرك سوى في مرة واحدة في قضية توجيه الاتهام لاحد الأشخاص الذين تحدث في فيديو مسرب عن وقائع تتعلق بالحرب الاهلية عام 2006، ليعود إلى سباته مرة أخرى! وجدناه ينتفض هذه المرة ليتحدث عن تحريك شكوى بالحق العام بحق كل من ورد اسمه في الاستجواب/ الاستعراض، استنادا إلى المادة الثانية من قانون الادعاء العام. وهذه هي المرة الأولى التي يعتمد فيها الادعاء العام على هذه المادة لتحريك شكوى، على الرغم من مئات المرات التي وردت فيها مثل هذه الاتهامات، والشهادات، والاعترافات، وبالوثائق في وسائل الإعلام العراقية، ولكنها لم تستطع ايقاظه من سباته!
في مناسبتين على الأقل، كان الفساد في العراق موضوعا عالميا، وكانت هناك اتهامات وتحقيقات وأحكام قضائية، ولكن لا أحد في العراق حرك ساكنا. الاولى كشفتها صحيفة الغارديان اللندنية في 30 حزيران/يونيو 2010. التي تحدثت عن تحقيقات تتعلق باستيراد العراق لمادة رابع أثيل الرصاص المحظورة من شركة بريطانية، وأشارت الصحيفة إلى أن الشركة دفعت رشى من اجل تخريب اختبارات ميدانية على النفط كان يمكن لها أن تؤدي إلى بدائل عن استخدام هذه المادة المسرطنة. ولم تكن الصحيفة في حينها تتحدث عن «اتهامات»، بل عن اعترافات، ووثائق، وتحقيقات يقوم بها الادعاء العام الأمريكي، بل أن أحد المتهمين، وهو لبناني، تم تسليمه إلى الولايات المتحدة، ووافق على الاعتراف بالذنب، وعلى التعاون مع المدعين العامين الأمريكيين!
المناسبة الثانية كانت تتعلق بأجهزة كشف المتفجرات، فقد نقلت البي بي سي يوم 23 نيسان/ ابريل 2013 خبرا عن إدانة رجل اعمال بريطاني بثلاث تهم احتيال لبيعه أجهزة زائفة للكشف عن المتفجرات إلى العراق. وكانت صحيفة النيويورك تايمز قد نشرت في 3 تشرين ثاني/ نوفمبر 2009 تقريرا عن هذه الأجهزة المزيفة، كما أن بريطانيا حظرت رسميا في العام 2010 تصدير هذه الأجهزة إلى العراق. ومع كل هذا ظل العراق يستخدم هذه الأجهزة في سيطراته حتى اللحظة، ولم يحرك رئيس مجلس الوزراء ساكنا سوى اتخاذه قرارا، لم ينفذ عمليا، بعد تفجير الكرادة في الشهر الماضي. أما المدعي العام فيبدو أنه لم يسمع بهذه المعلومات بعد!
في جلسة الاستجواب/ الاستعراض، كان واضحا أن الادعاءات تتجه في مسار وحيد: تحالف القوى السنية. وأن استخدام أسماء نواب ينتمون إلى أطراف أخرى كان مجرد قنابل دخان للتغطية على الهدف الرئيسي! ومراجعة سريعة لطبيعة الادعاءات تكشف ان قنابل الدخان لم تكن اتهامات بالفساد عمليا. فقد استخدم أسم أحدهما في سياق الادعاء على أحد اعضاء تحالف القوى، ولم يكن هناك اتهاما مباشرا، أما الحالة الثانية فكانت تتعلق بادعاءات بتقديم طلبات للتعيين في وزارة الدفاع! وبعيدا عن مدى صدق هذه الادعاءات من عدمها، وهو ما يجب أن يقرره القضاء وحده، فقد كانت هناك محاولة تسويق ما جرى على أنه «بطولة»، وأن وزير الدفاع بهجومه على التحالف السني الرئيس في مجلس النواب، والذي كان هو شخصيا أحد أعضائه، قبل أن يرشحه التحالف نفسه للوزارة، هي خطوة «وطنية» أعادت الهيبة للمؤسسة العسكرية.
لقد كانت وزارة الدفاع على الدوام، ومنذ عام 2003، تأتي على رأس المؤسسات الاكثر فسادا في العراق، وهو ما تؤكده التقارير التي تصدرها هيئة النزاهة في العراق. ومن ثم يجب ان لا يذهب الظن إلى أن ثمة اعتراضا على هذه الادعاءات، فالنظام السياسي العراقي قائم على أساس الصفقات، وكان الفساد دائما يشكل النواة الصلدة هذه الصفقات. وبالتالي فان الاعتراض الرئيسي هنا هو على محاولة استخدام هذه الادعاءات لأغراض سياسية في إطار تصفية الحسابات. ومن الواضح أن السيناريو كان يقوم على محاولة تسويق فساد طرف محدد، من خلال «وزير» ينتمي إلى هذه الطرف نفسه، طائفيا وسياسيا، من اجل إنتاج تأثير أكبر في الجمهور. وهو ما يعني ضمنا أن السيناريو عمد إلى «تلميع» صورة آخرين، ظهروا في نهاية الاستعراض بمظهر «غير الفاسدين»، تحديدا حلفاء السيد الوزير الجدد وداعميه الرئيسيين، وهو ما يعني في النهاية ضمان بقاء الوزير في موقعه! وسيتم في هذا الإطار الدفاع عن الوزير «الوطني» في مواجهة أي اتهامات وردت في الاستجواب الحقيقي، وليس استعراض الوزير، أو في مواجهة أي تشكيك منطقي حول الدوافع التي جعلت الوزير يصمت عن هذا الفساد طوال المدة الماضية، ولم يسارع إلى إبلاغ الجهات الرسمية، أو القضاء بهذه الادعاءات! فإنتاج «البطل» في النهاية تحتاج إلى تواطؤات «وطنية» بالضرورة.
منذ العام 2003 استحال الفساد البنيوي في العراق إلى بنية صلدة ولم يعد مجرد عرض، وظل هذه البنية تعيد إنتاج نفسها بأشكال وصيغ متعددة. وكان اعتماد مبدأ المحاصصة الأثنية/ الطائفية / الحزبية من جهة، والبنى القرابية والجهوية من جهة ثانية، الذي استغلته النخب السياسية بشكل فج، كان عاملا حاسما في تكريس بنية الفساد هذه. ومن ثم لم يعد الفساد في العراق مجرد فساد أفراد وإنما هو بنية تحكم الدولة/السلطة بأكملها. وقد كانت هناك محاولات منهجية، حظيت بتواطؤ سياسي جماعي، للدفاع عن الفاسدين، في ظل شعور عام بان سقوط أي فاسد، قد يؤدي في النهاية إلى تحلل العلاقات التي تديم بنية الفساد التي تحكم الجميع. هكذا كان النظام نفسه، وليس الأفراد، طرفا في تهريب الفاسدين الذين سقطوا سهوا (معظم الاحكام القضائية على الكبار كانت أحكاما غيابية!)؛ أو الذين سقطوا في ضحية لصراع سياسي مؤقت (كما في حالة وزير التجارة الأسبق فلاح السوداني)؛ أو في التواطؤ مع القضاء لتمرير صفقة سياسية لتبرئة بعض المحكومين بقضايا فساد (كما في حالة السياسي جمال الكربولي)؛ أو التواطؤ لمنع استجواب البعض في قضايا فساد موثقة (كما في حالة صالح المطلك). ومن ثم سيخسر المراهنون على أن استعراض تصفية الحسابات العلني الذي شهده مجلس النواب الاخير سيكون قادرا على اختراق بنية الفساد الحاكمة.
(المصدر: القدس العربي 2016-08-04)