من هنا نبدأ.. (حارة ومطر)
بين ثنايا الإحباط وخيبات الأمل المتراكمة، ثمة من يصنع الاختراق ويفتح الأفق ويدشّن البدايات الصحيحة المطلوبة منا، كأفراد ننتمي إلى مجتمعات تشعر بأنّها تغرق في أزمات معقدة ومترامية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتنموياً ومجتمعياً.
لذلك، أحرص كلما سنحت لي الفرصة، أن أخصص زاوية يوم الجمعة لنماذج مشرقة ونسمات من الهواء النقي الذي نحتاجه في هذه الأجواء المتشائمة المحيطة بنا. وإذا كان هناك ثمّة ما يدفع إلى التفاؤل والإصرار على الحياة والأمل، فهو مصطلح واحد: "المبادرات الاجتماعية". وهي كما ذكرت الصديقة ماسة الدلقموني (في مقالها في "الغد" أمس، بعنوان "ما أحوجنا إلى هذه الثقافة!")، بمثابة "ثقافة"؛ إذا انتشرت في مجتمعاتنا وتعززت وتجذرت، وأصبحت قيماً وسلوكاً، فإنّها تمثل بداية حقيقية لمواجهة المسار المتدحرج الآخر نحو الانهيار الكبير!
كتبتُ سابقاً في هذه الزاوية عن مبادرات متعددة، من أبرزها "أندية الكتاب" المنتشرة بين أجيال من الشباب المتعطش للقراءة والثقافة والتعلم، ومن أهمها على الإطلاق "نادي الإبداع" في الكرك، و"رواد التنمية" التي أصبحت ذات طابع إقليمي. وكتبتُ سابقاً عن مبادرة نبيل أبو عطا "عمان 101". وهناك العديد من المبادرات التي تمأسست وأصبحت واقعاً، لكنّها تحتاج إلى تسليط الضوء الإعلامي والدعم المالي والمعنوي، وإلى تعميمها كي تكون أنموذجاً جديداً، من ذلك مبادرات تحاول مساعدة النساء المسجونات على خلفية تعثرات مالية بسيطة، كنت أستمع قبل أيام لصاحبها على إحدى الإذاعات.
لفت مقال ماسة الدلقموني، أمس، انتباهي إلى مبادرة رائعة لمحمد أبو عميرة، وهو خبير في تخطيط المشروعات الصغيرة، بعنوان "حارة". وتقوم فكرتها على مبادرة تطوعية لتعزيز مشاركة أهالي الحارات في تجميلها وتحسينها وإعطائها المسحة الجمالية التي تخلق الطاقة الإيجابية لدى سكانها، وتبث فيهم روح التكافل والتعاون، والمسؤولية الاجتماعية تجاه بعضهم.
وُلدت الفكرة لدى أبو عميرة عندما عاد إلى حيّه في عمان الشرقية، فوجده في حال أسوأ مما كان عليه قبل عقود، فقرر تدشين المبادرة. ثم انتقلت فكرتها بإشرافه إلى الأحياء الأخرى. وشاهدنا في مقابلات تلفزيونية معه حجم الفارق الكبير بين ما كانت عليه تلك الأحياء وما آلت إليه الآن.
نتمنّى أن تكبر هذه المبادرة وأن تنمو، وتصبح بالفعل ثقافة تصل إلى الحارات والأحياء الفقيرة والمعدمة، أو تلك التي تعاني من الإهمال وضعف الاهتمام الحكومي، في عمان الشرقية وجميع المحافظات، باستثناء بعض أحياء عمان الغربية كما تعلمون!
المبادرة الثانية لفت انتباهي إليها صديقي المكافح فراس عوض، وهي مبادرة "مطر"، التي لم تحظ باهتمام إعلامي يذكر حتى الآن. وتقوم فكرة "مطر" على آلاف المتطوعين من الشباب الذين يكرسون جزءاً كبيراً من وقتهم وجهدهم لمساعدة المكفوفين على القراءة والكتابة، وعلى تسجيل الكتب المقروءة الجامعية والمدرسية وأي كتب أخرى، على "سيديهات" (CDs)، ليتمكن المكفوفون من "القراءة السماعية". وهي مبادرة إنسانية واجتماعية مدهشة، وفكرتها ساعدت عدداً كبيراً من المكفوفين، أو الذين يعانون ضعفاً شديداً في النظر، في إكمال دراساتهم والقراءة، وتحقيق النجاح المطلوب.
اطّلعت على صفحة "مطر" الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فوجدت حجم الجهد المبذول، وكأنّ القائمين عليها "خلية نحل" متطوعة لخدمة الآخرين
(رابط الصفحة: https://www.facebook.com/matarproject/).
ما نأمله هو أن تصبح هذه المبادرات ثقافة عامة، وأن تجد دعماً إعلامياً، ومساعدة من الحكومة والمنظمات الدولية والغربية الرسمية وغير الرسمية التي تدفع لـ"دكاكين" (يطلق عليها مراكز دراسات) ملايين الدولارات بلا عائد حقيقي. فتمكين المجتمعات والمرأة يمر عبر طريق "المبادرات الاجتماعية" التطوعية، والمسار البديل للانهيار هو هذا المسار البنّاء.
(الغد 2016-08-05)