روسيا وتركيا.. أربعة أسباب رئيسية لطي صفحة الخلافات
عاد النبض إلى العلاقات الروسية التركية بعد لقاء بوتين أردوغان في سانت بطرسبورغ، وقد أدلى الطرفان بتصريحات توحي بأن العلاقات ستعود إلى وضعها السابق وربما يطرأ عليها مزيد من التحسن.
وقد أثبت قائدا البلدين عقلانيتهما وجنحا إلى اللقاء والحوار بدل تصعيد التوتر ودفع ثمنه، وثمن ما يمكن أن يترتب عليه من أضرار. نظريا، يتحدث العالم عن ضرورة حل المشاكل والخلافات بالحوار والأساليب السلمية، لكن بوتين وأردوغان طبقا ذلك عمليا وبدون تشنج أو اعتداد مفرط بالذات.
العقلانية وحدها لم تكن المحرك الوحيد باتجاه اللقاء وإعادة الحياة إلى العلاقات بين البلدين، بل توفرت العديد من الأسباب التي دفعت قادة البلدين إلى التفاهم، علما أن القيادتين التركية والروسية لم تتبادلا التشنج وأبقتا على مستوى التوتر منخفضا إلى أدنى حد ممكن. هذه الأسباب متنوعة أُدرج أبرزها فيما يلي:
العامل الاقتصادي
خسر الطرفان اقتصاديا نتيجة التوتر فيما بينهما، وأثر ذلك على مستوى الناتج المحلي لكليهما، وعلى أعداد كبيرة من المواطنين الذين تضررت مصالحهم. كان التبادل التجاري فيما بين الطرفين عاليا ومرشحا للارتفاع مع الزمن، وفجأة انخفض هذا التبادل وشحت الأسواق وتضرر المصدرون والمستوردون.
روسيا بحاجة إلى تحسين أوضاعها الاقتصادية بخاصة أن أسعار النفط والغاز لا تسر إلا الدول المستوردة. لقد عانت الميزانية الروسية من نقص في السيولة بسبب هبوط الدخل، وهي بحاجة إلى تطوير العلاقات الاقتصادية مع العديد من الدول لتعويض النقص الناجم عن انخفاض أسعار الخام. وروسيا أيضا بحاجة إلى المضي في بناء خط أنابيب الغاز من جنوبها عبر تركيا ثم إلى أوروبا الجنوبية.
تعي روسيا أهمية هذا الأنبوب، وبدون الموافقة التركية لا يمكن له أن يرى النور، أو قد يراه بتكلفة عالية جدا. وهي مهتمة أيضا ببناء مجمع للطاقة النووية في تركيا مما يفسح لها مجالا لجني أرباح عالية. وروسيا بحاجة إلى العديد من البضائع التركية منخفضة التكلفة مما يسمح للمواطنين الروس بشرائها بارتياح.
أما تركيا فبحاجة إلى تسويق منتجاتها بخاصة الزراعية والتي تمت مقاطعتها من روسيا بعد إسقاط السوخوي. كما أنهاافتقدت أعدادا كبيرة من السياح الروس الذين كانوا يضخون أموالا طائلة للاقتصاد التركي. خلت اسطنبول وأنطاليا إلى حد كبير من السياح الروس، واضمحلت بذلك الصناعة السياحية التركية. وفضلا عن ذلك، تباطأت حركة الطيران بين روسيا وتركيا إلى حد كبير، وتأثرت شركات الطيران المدني. وتركيا تضررت اقتصاديا بسبب تشنج علاقاتها مع عدد من دول الجوار. لقد وسع الرئيس التركي دائرة أعدائه، ودفع بعض الجيران إلى التحفظ على رفع مستوى التبادل التجاري مع تركيا.
خسرت تركيا وروسيا اقتصاديا بسبب سوء العلاقات، وتعرضت حكومتا البلدين إلى ضغوط شعبية لأن أصحاب المصالح من الجمهور كانوا أكثر المتضررين. لقد أثر الضغط الاقتصادي على بوتين وأردوغان، ولم يكن أمامهما من مفر إلا رأب الصدع أو التخفيف منه.
مكافحة الإرهاب
أعلن الطرفان في مؤتمرهما الصحفي المشترك أن مكافحة الإرهاب تشكل أولوية للدولتين، ويجب العمل على القضاء على الإرهاب والإرهابيين. بالنسبة لروسيا، هناك تخوف من انتقال الإرهاب إلى أراضيها بخاصة أن حوالي 15% من سكانها مسلمين، ويمكن أن يتأثر عدد منهم بتنظيرات وسلوكيات التنظيمات الإسلامية المتطرفة وينخرطوا في حملة إرهابية في روسيا. روسيا مهتمة بالقضاء على منابع الإرهاب وتمويله، ومعنية بالتعاون مع مختلف الدول لمواجهته. وفي هذا الأمر، هي بحاجة إلى تركيا لما لها من تأثير على دول آسيا الوسطى التي يمكن أن يأتي الإرهاب من طرفها.
أما تركيا فهي الآن في عين العاصفة الإرهابية، وهناك عمليات عسكرية شبه يومية ضد مواقع مدنية وعسكرية تركية. أصبحت العمليات العسكرية ظاهرة يومية في الحياة التركية، وإذا لم تعالج تركيا مسألة الأكراد فمن المتوقع أن تشتد حملة التفجيرات ضد منشآتها وجنودها ومدنييها. تركيا بحاجة إلى الجهود الروسية لتهدئة الكرد، علما أن روسيا لم تقف ضد مطالب الكرد في الحرية والاستقلال، وإذا حصل الكرد في العراق وسوريا على امتيازات قومية جديدة فإن خطر التقسيم الجغرافي سيمتد إليها.
يمكن أن تؤثر روسيا على النظام السوري من أجل أن يمنع استقلال الشريط الكردي في الشمال السوري الأمر الذي يضعف حزب العمال الكردستاني الفاعل في تركيا. تركيا ستدفع ثمنا باهظا إذا أقدمت روسيا وسوريا على الانتقام منها من خلال تمويل الكرد وتسليحهم بسبب موقفها في سوريا وتأييدها للجماعات المسلحة ورفدها بالعتاد والأفراد. أردوغان، في سياسته الخارجية، لم يترك لنفسه أصدقاء في المنطقة، وبات يتوقع الأذى من أطراف عدة، والأنسب له ولتركيا توجيه سفينة علاقاته الخارجية بطريقة جديدة.
الناتو والدرع الصاروخية
روسيا متوجسة كثيرا من سياسات حلف الأطلسي، وهي تدرك أن الحلف يعمل على إحكام الطوق العسكري والأمني حولها لشلها عسكريا واقتصاديا. الحلف يتمدد نحو حدودها، وهناك محاولات استقطاب لدول شرق أوروبا لتصبح أعضاء في الحلف، كما أن الأميركيين مستمرون في سياستهم العسكرية القاضية بنشر الدرع الصاروخية حول روسيا.
إمكانات روسيا العسكرية والمالية أقل بكثير من إمكانات الولايات المتحدة، وهي لا تستطيع أن تغفل عن مصالحها الأمنية وتتركها للزمن، بل تحاول تمكين جدارها الأمني بتعزيز قدراتها في البحر الأسود وبحر قزوين وشرقي البحر الأبيض المتوسط. التأثير على تركيا يشكل مفتاحا مهما للحصانة الأمنية الروسية. روسيا معنية بإقناع تركيا بعدم المشاركة في الدرع الصاروخية، وتركيا تدرك أن مشاركتها سيجعلها هدفا عسكريا لروسيا.
من الصعب على روسيا إقناع تركيا بمحاولة الابتعاد عن السياسات الأمريكية العسكرية والأمنية، لكن من الممكن أن تقنعها ببعض المماطلة. تقديري أن العلاقات التركية الروسية ستعود إلى مستوى أفضل مما كانت عليه قبل إسقاط السوخوي، لكنها لن تصل إلى درجة العلاقات الإستراتيجية. وفي نفس الوقت، ستشهد العلاقات التركية الأطلسية بعض المماحكات، لكنها لن تنخفض إلى مستوى ما دون الإستراتيجية. علاقات تركيا بالأطلسي ليست معرضة للانهيار، وتركيا ذاتها ما زالت ترى في الأطلسي مظلة حماية وأمان.
أدان بوتين الانقلاب الفاشل الذي جرى في تركيا، وربما كان يهدف من وراء ذلك إلى استمالة الأتراك على حساب الأميركيين وحلف الأطلسي عموما. دول حلف الأطلسي وبالأخص الولايات المتحدة لم تقف بسرعة ضد الانقلاب الفاشل، ووقفت تتفرج على المسرح لترى إلى أين ستؤول الأمور. لم يتأخر بوتين بالإدانة وكأنه أراد إيصال رسالة للأتراك مفادها أن روسيا ليست معنية بتعريض أمن تركيا للخطر، وهي حريصة على استقرارها أكثر من حرص حلف الأطلسي. بوتين ينفي أن نواياه كانت على هذه الشاكلة، لكن أغلب المحللين يرون أن بوتين استغل الموقف.
الأزمة السورية
الموضوع السوري هو الأكثر تعقيدا في العلاقات الروسية التركية. بالنسبة لروسيا، سوريا دولة إقليمية مهمة جدا للوجود الروسي شرقي البحر الأبيض المتوسط، وفي المحيط العربي أيضا. أميركا حاصرت روسيا في البلدان العربية، ولم يتبق لها سوى سوريا لتسهيل حركتها العسكرية في المنطقة، أما روسيا فلم تكن مرتاحة لأداء النظام السوري داخليا، لكنها لا تستطيع التفريط به خوفا من البديل.
مشكلة معارضي النظام السوري أنهم غير قادرين على عمل الحسابات السياسية، وقد دفعوا بالعديد من الأطراف نحو معاداتهم ودعم النظام. علاقة روسيا مع النظام السوري إستراتيجية، وهي علاقة تمتد إلى طهران التي أثبتت وجودها على الساحتين الإقليمية والدولية، وأصبحت تتمتع بقدرات عسكرية لا يستهان بها. البوابة السورية تأذن لروسيا بتشكيل محور قد لا يصل إلى درجة الحلف في المنطقة، ويشكل درعا عسكريا وأمنيا للدول المنضوية فيه.
بالنسبة لتركيا، يشكل الموضوع السوري نشاطا بالوكالة متعلقا بالصراعات الداخلية العربية. من الممكن لتركيا أن تتراجع عن سياساتها تجاه النظام السوري إذا رأت أن الخسائر المترتبة على معاداته أكثر من الأرباح، لكن روسيا لا تستطيع لأن سقوط الأسد قد يؤدي إلى تشديد الحصار الغربي عليها.
ولهذا من الوارد أن تتجاوب تركيا مع المطلب الروسي بضرورة مراقبة الحدود مع سوريا ومنع دخول العتاد والجنود إلى الأراضي السورية. روسيا تدفع ثمنا الآن لدعمها الأسد، وهي ليست متحمسة لتوظيف جزء من ميزانيتها في حروب خارج روسيا. تركيا ستتفهم هذا الأمر، لكنها ستطالب روسيا بالتوقف عن الصمت إزاء نشاطات الكرد والعمليات العسكرية التي ينفذونها ضد أهداف تركية. أي أن المسألة ستخضع للمقايضة. جزء من هذه المقايضة يتضمن ضغطا روسيا على النظام السوري كي لا يقدم دعما للأكراد. ومن المتوقع أن يتضمن الطلب التركي عدم تشجيع روسيا إقامة دولة كردية.
(المصدر : الجزيرة 2016-08-12)