انتخابات 2016: النرجسيون على الأبواب
تبدو الانتخابات النيابية لدينا اليوم وكأنها حراك لفئتين من الناس؛ فئة من الأغنياء والمتنفذين الراغبين في مزيد من النفوذ، وفئة تبحث عن وعود ومنافع شخصية وخدمات صغيرة. فيما الاتجاهات الاجتماعية العامة، بما يفترض أن تعبر عنها الطبقة الوسطى، تبدو غائبة وغير معنية بالانتخابات، وتتعامل معها بفتور. ذلك أن أزمة الطبقة الوسطى اليوم أنها لم تعد ترى في الانتخابات فائدة حقيقية، وتأثيرا على البرامج والخدمات والمرافق والسياسات والتشريعات المنظمة لحياة الناس.
كانت الطبقة الوسطى هي الأكثر حماسا وحراكا في الانتخابات لمجموعة من الأسباب، التي انتهت تقريبا؛ منها نهاية الدوافع السياسية الكبرى والقومية التي تحركها التيارات القومية واليسارية والإسلامية، فهي محركات للانتخابات والعمل السياسي لم تعد موجودة، حتى لو أعلن عنها في الكتل والحملات الانتخابية. وثانيها، الفرص التي كانت قائمة في حراك النخب والقيادات، والتي تمنح مجالا لقادة الطبقة الوسطى للارتقاء والمشاركة والمنافسة. لكن الإغلاق الذي تمارسه النخب اليوم، وتضييقها المجال على الطبقة الوسطى، واحتكارها لكثير من الفرص التي كانت متروكة لتنافس أبناء الطبقة الوسطى عليها، مثل الوظائف القيادية في المؤسسات العامة والشركات، وهوامش المشاركة في الوزارة، وفرص التقدم السياسي على أساس النجاح في الانتخابات النيابية، كل هذه الأبواب أغلقت اليوم، بدليل عدم قدرتنا على تذكر شخصيات سياسية وقيادية ظهرت من خلال الطبقة الوسطى في الانتخابات الأخيرة. أن تكون نائبا قادما من الطبقة الوسطى إذا ترك لك المجال، لم يعد مفيدا للأشخاص والبرامج والفئات والسياسات. بالطبع، فإننا نتحدث عن فوائد وفرص مشروعة، وإن كانت تبدو شخصية، ولنعترف بأنه بغير هذه المكاسب الشخصية (المشروعة) لا يمكن أن تتقدم الحياة السياسية.
لقد استدرجنا أنفسنا (حكومات ومجتمعات وتيارات وقيادات سياسية ونخبوية) إلى مأزق لم يعد الخروج منه سهلا، ولا ممكنا بالخبرات والوسائل التقليدية. فالحياة السياسية والاجتماعية أصابها فقدان ثقة. وليس بعيدا عن ذلك ما أصاب الحياة اليومية والأسواق من فقدان الثقة، وهاجس مفرط في سوء الظن بالآخرين، لا يعطل فقط الانتخابات ولكنه يمتد إلى الاستهلاك وبيع وشراء الخدمات والسلع والعلاقات الاجتماعية والشخصية.
إن فقدان الثقة مسألة لا تقف عند الحماس أو عدم الحماس للانتخابات العامة، ولا تقف متوالياتها في الامتداد إلى الأسواق والحياة اليومية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنها تتطور في منظومات من المشاعر والأفكار التي تقصم الإنتاج والعمل؛ إذ يغلب على المواطنين اليوم -وأرجو أن أكون مخطئا- التشاؤم والتموضع في شعور الضحية الصالحة البريئة. وهذا مرض خطير يعطل ديناميات الأداء الفردي والجماعي في المجتمعات والمؤسسات؛ ماذا تنتظر من مواطن يشعر أنه محاط بالزيف، وأن الناس حوله يُظهرون غير حقيقتهم؟ فالنرجسية بما هي مرض أو سلوك اجتماعي مؤذ للذات والآخرين، لم تعد تتعلق بسلوك وحال فئة من الناس، ولكنها تتحول إلى وباء مزدوج: النرجسية وفوبيا النرجسية. وهذه الأخيرة أسوأ من الأولى؛ فإذا كنت تحت تأثير هواجس حول حقيقة الأشخاص الذين تتواصل معهم في الحياة والعمل والسياسة، فأنت تعاني من فوبيا النرجسية.
لقد تحول مفهوم النرجسية من مصطلح طبي إلى مصطلح ثقافي، كما تحول من حالة مرضية محددة إلى حالة وبائية عامة لم تعد تسمح لنا بملاحظة الإيجابيات والإنجازات واحترام الناس. وأسوأ من ذلك أن هذا الشعور المعبر عنه بالتذمر الكاسح، يحسبه أصحابه معارضة أو بطولة، برغم أنه ليس سوى فشل أو مرض.
يقول الفيلسوف رينيه جيرارد: "إن لدينا ميلا لملاحظة النرجسية عند الآخرين لنطمئن أنفسنا ونعزيها بسبب ما نعرفه عن أنفسنا من نقص وأخطاء". ولا بأس في ذلك بحده الذي يمكننا من النقد والتمييز، أو يدفعنا إلى المقاومة أو المحاولة والمشاركة الإيجابية. لكنه حين يتحول إلى معتقدات شخصية واجتماعية يحسبها أصحابها أمرا إيجابيا أو طيبا، فإننا نكون نعمل ضد أنفسنا.
(الغد 2016-08-13)