خيارات أردوغان في الكرملين
لا يمكن استبعاد أي شيء في السياسة، فهي الطريق إلى كل الطرق، وهي الطريق إلى اللاطريق، وهي السير في الاتجاهات المتعاكسة، والقفز من اليمين إلى اليسار، وبالعكس، تنطبق عليها مقولة ميكيافيللي الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة"، لأن السياسة كما وصفها رئيس الوزراء البريطاني الأشهر وينستون تشرتشل لا تعرف الصداقة أو العداء الدائم إنما تعرف المصالح الدائمة.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم الحركة السياسية التركية الأردوغانية والحركة الروسية البوتينية، ففي لحظة واحدة تحول القطبان المتنافران إلى قطبين متجاذبين، وخلافا للفيزياء فإن للسياسة قوانينها المختلفة، التي قد تعمل التنافر والتجاذب مسألة نسبية للغاية.
من الناحية العملية فإن تركيا تنتمي إلى الفضاء الغربي، عسكريا وأمنيا، على الأقل، فهي عضو في حلف شمال الأطلسي "النيتو"، وهي تتطلع للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولها روابط اقتصادية قوية مع الغرب، أمريكا وأوروبا، وهذا يجعل من المنطقي أن تكون تركيا "فضاء غربيا".
وفي الجهة الأخرى نرى أن تركيا بعيدة عن الفضاء الروسي، عسكريا وأمنيا على الأقل، فهي تنتمي إلى الحلف المعادي لروسيا، وهناك مشكلة القرم، التي تعتبرها أنقرة قضية خاصة جدا، لأن سكانها ينتمون إلى العرق التركي، وكانوا تحت سلطة تركيا العثمانية في يوم من الأيام، وهناك مشكلة إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه من أذربيجان وأرمينيا والذي تعتبره أذربيجان المدعومة من تركيا "إقليما محتلا من قبل الأرمن"، وهناك الخلاف الحاد في سوريا حول مصير الثورة السورية ومصير بشار الأسد، الذي تتمسك به روسيا وترفضه تركيا، ما يبعد الشقة بينهما. يضاف إلى ذلك الطائرة العسكرية الروسية التي أسقطتها المقاتلات التركية قبل 9 أشهر.
ولكن ورغم هذا المشهد التركي المعقد، فإن أردوغان "طار" إلى موسكو، واستقبل بحفاوة بالغة، وانتظره الرئيس الروس بوتين واقفا لمدة دقيقتين و16 ثانية، ووضعت صورة الرئيسين، أردوغان وبوتين، على أطباق الطعام، وهي "حركات" ليست عفوية بالطبع، بل مقصودة تماما، وفي الصور التي بثتها وكالات الأنباء والفضائيات، كانت لغة الجسد واضحة من حيث الراحة بين الرجلين، وكانت اللغة واثقة وواضحة، وهو ما دفع صحيفة مثل التايمز البريطانية إلى القول إن "زيارة أردوغان إلى موسكو تثير ذعر الغرب"، وأن يبادر حلف شمال الأطلسي إلى التصريح أن عضوية تركيا في الحلف ليست محل نقاش، مشددا على الثقة المتبادلة بين الجانبين. وأن ينفي الأنباء التي تحدثت عن إمكانية انسحاب تركيا من الحلف، لأن أنقرة "حليف ثمين يقدم مساهمات أساسية في الجهود المشتركة" للحلف.
لا شك أن مسارعة حلف الناتو إلى النفي والإثبات والإشادة بتركيا، تعبير عن القلق أن أنقرة يمكن أن تقلب ظهر المجن، ما يلخبط التوزيع العالمي للقوى، حتى وإن كان مثل هذا القرار معقدا ومتشابكا، إلى درجة أن الفكاك من الوضع القائم يحتاج إلى عمليات "اجتثاث" نفسي وفكري وثقافي وعقائدي وعسكري وأمني واقتصادي، وهي الأمور التي يأخذها الرئيس أردوغان بعين الاعتبار.
إلا أن الغضب التركي لا يمكن تجاهله، فحكومة أردوغان اتهمت أمريكا وأوروبا بأنها دعمت المحاولة الانقلابية الفاشلة، وأنها تتآمر عليها، وتواصل الصحافة الغربية الهجوم على تركيا ورئيسها وحكومتها، وإن موقفها من الانقلاب وتردد الدول الغربية بإصدار ردود فعل مباشرة ضد الانقلاب يشير إلى أن هذه الدول مؤيدة أو متعاطفة أو راغبة أو متورطة في المحاولة الانقلابية، حتى إن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أعلن أن الاتحاد الأوروبي "تبنى موقفا مؤيدا للانقلاب شجع الانقلابيين".
هنا كان لابد من إظهار أن أردوغان لديه خيارات أخرى، غير الغرب، قادر على صناعتها مع شريك جديد في الكرملين، لبناء حالة إقليمية وعالمية جديدة، بعد أن أثبت الرئيس بوتين أنه لاعب دولي مهم في سوريا وأوكرانيا ومن قبلها جورجيا، ولديه ما يكفي من القوة والتصنيع العسكري والموارد. وبالتالي يمكن الدخول معه في شراكة، تحفظ مصالح الطرفين، وتعيد رسم الخارطة الدولية كلها.
(المصدر: الشرق القطرية 2016-08-14)