مسيحيو فلسطين والمشرق: أُصَلاء .. لا غُزاة أو دخلاء !
لم تكن تصريحات عضو اللجنة المركزية لحركة فتح, واحد «الساعين» لخلافة رئيس السلطة محمود عباس،... جبريل الرجوب, في حق مسيحيي فلسطين مجرد زلة لسان او استعصاء لغوي دفعه الى استعارة تعبير يتسم بالخِفّة وانعدام المسؤولية، ذهب فيه بعيدا في الكشف عن ثقافة استعلائية تغرِف من معين الكراهية والتحريض والاقصاء،على نحو بدا فيه «داعشيّاً», اكثر من اولئك الذين روّجوا وسهّلوا وتبنّوا فكر داعش الظلامي, وراحوا يخوضون حروبهم الدموية النكراء ضد مُكَوِّن اساسي من مكونات الهوية العربية المشرقية، هم في الاساس اصحاب الارض وملحها, كانوا قبل المسيحية وبعدها كما قبل الاسلام وبعده... عرب اقحاح، حموا الهوية واللغة ودافعوا عن وجودهم ووقفوا في وجه الغزوات, مختلفة الاسماء والاهداف والرايات، الى ان نجحوا في دحر معظم الحملات التي ارادت طمس الهوية العربية واقتلاعهم من أرضهم.
ان يقول الرجوب (دع عنك الرتبة العسكرية التي يحرص على زجِّها قبل اسمه) في نبرة اتهام واضحة بان: «إخواننا» (جماعة ميري كريسمس), في اشارة تفوح منها رائحة الاستخفاف وعدم الاعتراف بحقوقهم الاساسية, «جزء منهم... صَوَّتوا لحماس»!! يعني ان الرجل يُصادِر على جزء اصيل من الشعب الفلسطيني, حقه في اختيار من يريد ان يُصوّت له, وبالتالي فانه ينزع عنهم وطنيتهم و»مواطنتهم» ويرى فيهم مجرد رصيد احتياطي يجب بالضرورة ان يكون مُلحَقا بحركة فتح او «جماعته» شخصياً, هذا بافتراض «صحة ما قاله» وهو كلام مشكوك فيه وبعيد تماماً عن الواقع والدقة، بل هو مجرد افتعال واستعداء ومحاولة مكشوفة لتحميل مكون اساسي من الهوية الفلسطينية (والعربية) مسؤولية هزيمة فتح والسلطة في شكل عام، بعد ان قال الفلسطينيون كلمتهم, وارادوا معاقبة «ابوات» السلطة الذين وظّفوا واستفادوا من «ريع» نضالهم «الثوري»، الذي انتهى في واقع الحال الى هزيمة نكراء تمثلت في اتفاق اوسلو, الذي وبعد ربع قرن من توقيعه لم ينجح في وقف سرطان الاستيطان، بل انتهى الى تنسيق امني مع جيش الاحتلال، رأى فيه اهل السلطة انه يرقى الى مرتبة ...القداسة.ناهيك عن أن المسيحيين ليسوا ولم يكونوا طرفاً في الصراع على «كعكة» السلطة وامتيازاتها المسمومة,بين فتح وحماس,ذلك الصراع العبثي الذي انهك الشعب الفلسطيني وأوشك على إضاعة ما «تبقّى» من الحقوق ,بل اوصل «القضية» الى حافة التصفية .
الى اين من هنا؟
ليس معروفاً بعد، لماذا اختار الرجوب قناة «اون تي في» المصرية لاطلاق تصريحاته المرفوضة هذه, وخصوصا انها جاءت بعد اقرار مجلس النواب المصري «قانون بناء الكنائس» الذي كسر – الى حد كبير – عقدة مستعصية في علاقة الكنائس المسيحية بالسلطة التنفيذية في مصر, والتي بقيت قائمة منذ قرن ونصف (1856) تلخّصت كلها في القانون المعروف بـ(الخط الهمايوني) وقد اشاع القانون الجديد اجواء من الارتياح وتنفيس الاحتقان الذي شاب العلاقة بين الكنائس المصرية وفي مقدمتها الكنيسة القبطية كذلك الكاثوليكية والارثوذكسية.
فكيف يمكن لرجل يرى في نفسه «الاهلية» لقيادة شعب تحت الاحتلال وانتزاع حقه في تقرير المصير واقامة دولته المستقلة على تراب وطنه, الذي كله تحت نير الاحتلال والتهويد والاستيطان، ان يتفوه بكلام غير مسؤول كهذا, وبمثل هذه الالفاظ والعبارات التي تفوح منها رائحة التحريض والحض على الكراهية, وتفضي الى انقسام المجتمع وتفتيت نسيجه الوطني؟ في الوقت الذي يتحدث فيه اهل السلطة»زَعْمَاً» عن صلابة الوحدة الوطنية وعناق الهلال مع الصليب, وغيرها من الشعارات التي لا رصيد لها في سوق السياسة الفلسطينية... الراهنة؟ فيما هي على الارض(اعني بين الناس المُكْتوين بثنائية فتح وحماس) ذات معنى اصيل وثابت, يتجاوز هرطقات السياسيين والساعين للبقاء تحت الاضواء. وإلاّ كيف سمح شخص كهذا لنفسه ان يقول «نسبة المسيحيين 17% في فلسطين، فماذا نفعل بهم؟ هل نقوم بتدفيعهم الجزية؟».... أليس من حق الجميع ان يسأل الجنرال الرجوب بأي حق يستخف بهذه النسبة من ابناء شعبه»بافتراض دقة ارقامه»؟ وكيف له ان «يحلم» بالجلوس على كرسي «الحكم» ويقرر مصير هؤلاء المواطنين؟ولعل السؤال الاكثر اهمية بل المباشر والضروري الذي يجب ان يُطرَح عليه: مَنْ أنت حتى تطرح سؤالاً كهذا؟ ومن الذي منحك حق الاشارة الى مكون اصيل واساسي, كي تقول في حقه هذا الكلام الجارح لمشاعر الشعب الفلسطيني اولاً والشعوب العربية الأخرى؟.
ثمة حاجة لتذكير الذين يتأبطون شراً, مهمة تقسيم الشعب الفلسطيني ونشر الكراهية في صفوفه. بأن الوقت قد حان، لأن يثوبوا الى رشدهم وان يستخلصوا دروس التاريخ وعِبرِه, وان يُدققوا جيدا في الواقع الفلسطيني (والاقليمي) الراهن, الذي هو وحده الذي افرز ويفرز وعي الفلسطينيين, الذين لم يعد بمقدور أحد مواصلة الضحك عليهم او بيعهم بضاعة مغشوشة بكلام ومصطلحات مغسولة.
طوبى لِمسيحيي فلسطين والمشرق العربي كله... أبناء الأرض ومِلحها الطيب والخصيب.
(الرأي 2016-09-06 )