ثورة كبرى في عمل فني كبير..
عندما انتهى عرض الجزء الثالث من فيلم « الثورة العربية الكبرى « شعرت بشيء من الحيرة والارتباك ، هل اكتب عن أول ثورة عربية ، واول مشروع نهضوي عربي من خلال السرد التاريخي الموثق منطلقا من دراستي الاكاديمية للتاريخ ، أم اكتب عن جماليات الفيلم التسجيلي الدرامي برؤية فنية بصرية ؟.
في النهاية انحزت الى الكتابة عن الثورة الكبرى والفيلم السينمائي الكبير كعمل سياسي فني تاريخي متكامل وجامع ، وهو الفيلم الطويل الذي كتبه واخرجه الفنان الشاب اصيل خيري منصور ورولاند ماي ، حيث استغرق اخراجه وانتاجه واعداده للعرض حوالي العامين ، ليكون اهم واكبر عمل فني اردني.
الفيلم مهم بمضمونه وموضوعه وشكله ، وهو مشغول بمهنية ابداعية عالية ، حيث قدم الثورة العربية الكبرى بكامل تفاصيلها واهدافها ومقاصدها في الذكرى المئوية للثورة ، التي كانت ولا تزال أول واكبر مشروع نهضوي عربي. وقد يكون عرض الفيلم من حيث التوقيت مهم جدا لأنه يشكل رسالة للمشاهد العربي في هذا الوقت الصعب ، خصوصا الذين يتابعون التطورات والأحداث في سوريا والعراق وباقي الأقطار العربية الغارقة في الفوضى والعنف ، وهي الحالة التي تعود جذورها الى المربع الأول ، واعني مرحلة فشل المشروع العربي الأول نتيجة الخديعة الغربية والغدر الذي لم ينقطع حتى اليوم. الحقيقة أن الفيلم التزم الدقة التاريخية والصدق والأمانة والحياد ، فقدم الوقائع التاريخية كما هي ، وفي اطار الحقيقة ، بل كشف الكثير من التفاصيل الموثقة التي كانت غائبة ، والأهم انه انصف الشريف الحسين بن علي ، الذي كان أول الصامدين واكبر المضّحين في سبيل تحقيق مشروعه العربي الرائد ( الحلم العر بي ) ، الذي رفض التسيم وتمسك بالوحدة العربية ، وهو المشروع النهضوي الذي الهم الكثيرين من بعده ، ووما زال يشكل خلاص العرب في هذه المرحلة ، خصوصا في هذه المرحلة التاريخية المصيرية.
وعندما نتحدث عن الفيلم كعمل فني كبير ومميز توّج احتفالات المئوية للثورة الكبرى ، نستطيع القول ان الفنان اصيل خيري منصور ورولاند ماي نجحا الى حد بعيد في كتابة سيناريو واخراج الفيلم ، رغم صعوبة ونوعية العمل. والنجاح ظهر بوضوح من خلال السيطرة الكاملة على ادارة هذه الجموع في المشاهد التمثيلية الدرامية ، كما نجحا في استخدام وتوظيف الوثائق خلال السرد التاريخي ، اضافة الى دمج شهادات المؤرخين ضمن الجدول الزماني والمكاني داخل التسلسل الدرامي ، وفي مقدمتهم الدكتور علي محافظة والدكتور مهند مبيضين ويوجين روغان وجيمس بار ، كما يجب أن لاننسى أو نتجاهل المرونة في حركة الكاميرات ، وتشكيل الكادرات البصرية المعبرة بابداع ظاهر ، اضافة الى الموسيقى التعبيرية للفنان طارق الناصر التي كانت مرافقة ولافتة ومعبرة.
هذا العمل الفني الكبير المميز ، وبهذا الحشد من الممثلين والعتاد والملابس ومسرح الاحداث البيئي ، اعادنا الى زمن ما قبل مئة عام ، واعد احياء الثورة في الذاكرة العربية. الحقيقة أن الفيلم اشعرني بالفخر والاعتزاز ، حيث حقق الفنانون الاردنيون نجاحا كبيرا الى جانب رفاقهم من الفنانين البريطانيين والاتراك. واعتقد ان الفنان حابس حسين نجح الى حد بعيد في تجسيد شخصية الشريف حسين ، التي تميزت بالهدوء والحكمة والاصرار والغضب ، اضافة الى البعد النفسي. واللافت ايضا نجاح الفنانين رشيد ملحس بدور الامير عبدالله الاول وخالد الغويري بدور الامير فيصل الاول.
الحقيقة أن فيلم الثورة العربية الكبرى انعش ذاكرتنا ، واعاد طرح موضوع الصناعة السينمائية الاردنية. لا شك أن بعض المشاهدين عاصر البدايات السينمائية الاردنية منذ نهاية الخمسينات ، واعني فيلم صراع في جرش ، وفيلم وطني حبيبي الذي لقي الدعم من الجيش العربي من حيث العتاد الحربي ومشاركة اعداد من الجنود في المعارك ، وما تبع ذلك من تجارب ومحاولات لصناعة سينما وطنية ، الا ان الاعمال السابقة كانت محاولات فردية انتهت برحيل اصحابها ، ولم يكتب النجاح لقيام صناعة سينمائية حقيقية منافسة ، بسبب عزوف الراسمال الوطني من خوض غمار هذه الصناعة او دعمها ، رغم انها صناعة مربحة. اليوم ، وبعد انتاج هذا العمل السنمائي الكبير بمستواه العالمي ، نستطيع القول ان هذا الفيلم يؤسس لصناعة سينمائية اردنية حقيقية ، في حال تم توفير الاستثمار الوطني الشجاع ، ولا أقول المغامرن لأن كل اسباب النجاح متوفرة بوجود هذا الكم من الكفاءات الفنية الوطنية ، ومن الممكن التعاون مع كفاءات عربية واجنبية كما يحدث في الاعمال المشتركة الكبيرة.
(المصدر: الرأي 2016-09-20)