سوريا.. لماذا لم تثمر تضحيات الشعب حتى الآن؟
بعد شهور من اندلاع الثورة السورية كتبت مقالا بعنوان “هل سينتصر السوريون على نظامهم؟ الجواب لا يحدد موقفنا”. يومها لم يكن ثمة سلاح ولا رصاص من طرف الثورة، بل مجرد مسيرات ونشاطات شعبية تتم مواجهتها بالرصاص.
كان شبيحة النظام في الخارج وأدعياء الممانعة يناكفوننا بالقول إن فرصة تكرار النموذجين التونسي والمصري غير واردة في سوريا (لم يكن النموذج الليبي مطروحا يومها)، لأن النظام متماسك، ويستند إلى أقلية تسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية؛ مع أقليات أخرى، إلى جانب طبقة من الغالبية السنية لا ترى لها مصلحة في إسقاطه.
قلنا يومها إن السؤال إياه لا يؤثر في موقفنا، فنحن لسنا تجارا ولا مرتزقة نحدد موقفنا بناءً على سؤال “من المنتصر ومن المهزوم؟”، فالقيم والمبادئ هي التي تحدد الموقف قبل أي شيء آخر، وهذه تدعونا للانحياز للشعب السوري دون تردد، لأنه شعب خرج يطلب الحرية والكرامة، ولم يستشر أحدا حين فعل ذلك (أليس هذا منطق الحسين؟! هذه لمن يرفعون رايته وروحه تلعنهم!!).
يحتار بعض الناس في توصيف المشهد، ومن ثم الإجابة عن سؤال لماذا لم ينتصر السوريون على نظامهم البشع؟ ويذهب بعضهم إلى الحديث عن الشرذمة التي طبعت الثورة السورية منذ عسكرتها كسبب رئيس.
ربما كان مستوى الشرذمة أكبر بكثير مما عرفته ثورات مشابهة، إن كان ضد المستعمرين، أم ضد أنظمة ظالمة، لكن الجانب الآخر من الصورة هو أن تلك الشرذمة ليست عفوية أيضا، بل هي نتاج تدخلات خارجية تحكمها الظروف الموضوعية وموازين القوى.
في سوريا كان المشهد معقدا إلى درجة رهيبة، فنحن هنا لا نتحدث عن دولة محورية في منطقة حساسة وحسب، بل نتحدث عن دولة لها حدود مع الدولة الأكثر دلالا في العالم، وهي الدولة التي تسيطر على القرار السياسي في أكبر إمبراطورية في العالم، بل وتؤثر في مواقف دول كبرى كثيرة، بما فيها روسيا نفسها، فضلا عن دول أوروبية.
العامل الإسرائيلي كان حاضرا، ولكن بطريقة تختلف تماما عما يروّجه شبيحة خامنئي، فهو أيام الثورة السلمية، كان يرفض انتصار الشعب لأنه سيدفع برنامج ربيع العربي قدما إلى الأمام، ويحرم الصهاينة من سياجهم العربي الرسمي. وحين تعسكرت الثورة (النظام هو من سعى لعسكرتها)؛ صار الخيار هو إطالة أمد الحرب لاستنزاف الجميع، وعلى هذه القاعدة ضغط الأمريكان على الجميع لحرمان الثورة من السلاح النوعي القادر على الحسم، فظلت المراوحة هي العنوان، ومعها النزيف للجميع. وحين ترنح النظام، تصاعد التدخل الإيراني، وحين عجز الأخير تم استدعاء الروس، فكيف والحالة هذه ستتمكن فصائل محاصرة ومعزولة، وبمدد محدود من مواجهة قوة إقليمية وأخرى دولية؟!
والحق أنه لولا البسالة وإرادة الإيمان من قبل المقاتلين، وروح التضحية من قبل شعب عظيم، لما كان هذا الصمود الأسطوري، والخلاصة أن ميزان القوى كان مختلا بالكامل لصالح أعداء الثورة الذين تتقدمهم أمريكا وجميع الفرقاء الدوليين، فهنا لا وجود لقوة دولية تدعم الثوار، كما حصل مع المجاهدين الأفغان على سبيل المثال، أما الدول الداعمة وهي محدودة جدا، فهي خائفة ومترددة، وليست قادرة على التمرد الواضح على الشروط الدولية.
وفيما قلنا بعد شهور من عسكرة الثورة وبداية التدخل الإيراني إن سوريا ستكون أفغانستان إيران، فقد تأكد ذلك لاحقا لكل ذي عين، والنزيف الذي أصاب إيران أكبر من أن يوصف أو يقدر، ويكفي أن تدخل في عداء سافر مع غالبية الأمة كي ندرك حجم خسارتها الراهنة والقادمة.
لا شك لدينا في أن أحلام بعض الفصائل في أن يكون هناك انتصار حاسم، أو دولة إسلامية في سوريا، لن تتحوّل إلى واقع، لكن المؤكد في المقابل أن سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه تحت حكم أقلية طائفية تتحكم في البلد كما كان الحال قبل الثورة، والأكثر تأكيدا أن مشروع إيران التوسعي لن ينجح بحال، وسيدرك خامنئي ذلك في يوم من الأيام، وسيضطر إلى تجرّع كأس السم كما تجرّعه الخميني بوقف الحرب العراقية الإيرانية، مع التذكير بأن المقولات ذاتها كانت تتردد في حينه، ممثلة في أن ما يجري هو بوحي من الله، وأنه مقدمة لظهور المهدي!!
لقد غادرت ثورة سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات موقعها كجزء من ربيع العرب، وأصبحت معركة للجم الجنون الإيراني، الذي تمدد لاحقا نحو اليمن، ولذلك فهي معركة كبرى لتغيير حقائق التاريخ والجعرافيا في المنطقة، ولا مناص من خوضها حتى النهاية. أي حتى يأتي المعتدون إلى كلمة سواء توقف نزيفهم؛ ونزيف الأمة على حد سواء.
(الدستور2016-10-05)