دبلوماسيّة التعالي.. والغطرسة!
لم تكن المفردات والمصطلحات والعبارات التي تفوح منها رائحة التعالي والنرجسية والغطرسة, التي وردت في كلمة الرئيس التركي اردوغان، في افتتاح المؤتمر التاسع للمجلس الاسلامي في اسطنبول...جديدة او مُستغرَبة، فهو واركان حزبه وحكومته، كانواــ وما يزالون ــ يستخدمون لهجة ولغة كهذه اكثر من مرة, ضد كل من انتقَد سياساتهم المبنِّية والمُهَنْدسَة على مزاج وحلم «عثماني» امبراطوري, يرى تركيا الحالية مُؤهِّلة لاستعادة ذلك النموذج القديم، الذي كان في جوهره استعمارياً ومارس طوال بزوغ نجم الامبراطورية العثمانية حتى قبل افول ذلك النجم, اسوأ انواع القهر والنهب والتنكيل والعنصرية, التي تجلّت في النهاية في الحركة الفاشية المُسمّاة «تركيا الفتاة» والتي تركت إرثاً بغيضاً في بلاد العرب (شرقها على وجه الخصوص) بتعليقها «كواكب» عديدة من احرار العرب... على أعواد المشانق.
يعود فخامة الرئيس التركي الذي نجا من محاولة انقلابية (مشكوك في سرديتها حتى الآن) قبل ثلاثة اشهر (15/7) لاستخدام اللغة التي واظب استخدامها تجاه اوروبا (ولكن بلهجة اقل عدوانية ومُباشَرَة، وإن كانت «بالروحية» ذاتها والغمزات واللذعات التي يُجيدها، لكنه هذه المرة «كَسَرَ» المحرمات والمحظورات, وتجاوز حدود اللياقات والكياسة الدبلوماسية والسياسية, ولم «يُوفِّر» رئيس الوزراء العراقي حيدر العِبادي شخصياً, عندما قلّل من شأنه وخاطَبه بلغة, اقل ما يمكن ان يُقال فيها انها «غير ملائمة» في عالم «الأقطاب» وكبار الساسة والحُكَّام، أيّاً كان رأي المرء في هذا الحاكم او ذاك, وخصوصا انه استخدم كلمات واوصاف لا تدخل في باب النقد السياسي, بمعنى وصف نظام الحكم بالاستبداد والحاكم بالديكتاتور او الذي جاء الى السلطة بانقلاب عسكري او بانتخابات مزوّرة, وغيرها ممن تندرج في اطار مألوف «الشارع» السياسي و...الدبلوماسي.
ليس ثمة ما يُمكن تبريره او ادراجه في خانة التراشق الاعلامي عندما يقول اردوغان للعِبادي: انت لست «ندّي» ولست بـ»مستواي» و»صُراخك» في العراق, ليس مهما بالنسبة لنا. ثم يُضيف في تحدٍ صارخ لكل الاعراف وعلاقات الجوار والمبادئ الأولية للقانون الدولي: «نحن سنفعل ما نشاء، وعليك ان تعلم ذلك، وعليك ان تلزم «حدّك».. أولاً».
ما ورد في كلمة الرئيس التركي, الذي لا يكاد يختلف اثنان على انه «لا» يلتزم بأي ضوابط او معايير, في التعبير عن مكنوناته وحقائق مواقفه السياسية والشخصية، يَخرج على المألوف ويندرج في خانة الردح السياسي, والكشف عمّا يدور في «عقل» الرجل «الأقوى» في تركيا وما يعتمل في صدره, والذي يبدو انه ما يزال مُنتشياً بمآلات «التطور» الدراماتيكي الذي حدث في الخامس عشر من تموز الماضي, والذي لِحسْنِ حظه (ان لم يكن هو شخصياً..خَلْف ذلك الحدث) ان الانقلاب المزعوم قد فشل، ما منحه «هِبَة من الله»على حد قوله حرفياً، كي يُحْكِم قبضته على تركيا ويُصَفّي كل خصومه داخل الحزب وخارجه, وكي يستثمر في ذلك الانقلاب حتى النهاية، كي يمنح الزَخَمَ لمشروعه العثماني الذي انتكس وكاد يُسحَق في سوريا، لكن اردوغان لم يستخلص الدروس والعِبر من كل ما جرى ويجري، بل ادار ظهره ــ كعادته ـــ لكل الدعوات، بأن يوقف تدخلاته وعربداته عبر الحدود, وان يتخلى عن اطماعه في سوريا والعراق, وان يُعيد النظر في سياساته التي كادت تُشعِل حربا اهلية في تركيا ذاتها,رغم أن إمكانية اندلاعها... ما تزال واردة، بعد ان تنَّكر لاتفاقه وحواراته مع الكرد الاتراك, وحَوَّل مناطقهم في الجنوب الشرقي لبلاده, الى ميادين حرب شوارع وتدمير شامل, حتى وصفها الصحافيون ومنظمات حقوق الانسان التركية والاجنبية بانها افرب الى عملية تطهير عِرقي... حقيقية.
واذا كانت الولايات المتحدة الأميركية ذات السياسة المُتقلّبة التي تعتمد النفاق وارتداء الاقنعة, قد اعلنت على لسان جون كيربي، الناطق باسم خارجيتها: ان «على الدول المجاورة للعراق ان تحترم سيادته ووحدة اراضيه»، وانها (واشنطن) اعربت عن دعمها لهذا الموقف مراراً. فانها لم»تنجح» في ثني انقرة عن المضي قدما في التمسك ببقاء قواتها في معسكر بعشيقة.كذلك فان ما يرشح عن مشاركة الجيش التركي المُحتّل لبعشيقة، «المحتملة» في تحرير الموصل, وما سرّبته الصحافة الاميركية والتركية عن ان اردوغان قدّم للادارة الاميركية خطة متكاملة, ليس فقط لتحرير «الرقة» السورية بل والموصل، يكشف حجم ومدى اللعبة المزدوجة التي تلعبها واشنطن, لإشعال حرب بين الطرفين العراقي والتركي, بهدف دفعهما للتمسك بتحالفهما معها واستعادة العلاقات «الطبيعية» مع انقرة، فضلا عن دفع طهران (الصامتة حتى الآن) للإعلان عن موقفها الحقيقي وعندها سَتبني ادارة اوباما (التي تستعد لحزم حقائبها) على الشيء.. مُقتضاه.
ما «استحدثه» اردوغان من توتر واستفزاز في المنطقة(وتخومها) التي تعيش فصولاً دامية ,عالية التوتر والإحتقان ، يعكس مدى خطر المشروع العثماني الجديد على المنطقة العربية، وخصوصاً انه مشروع قائم في الاساس على طمس الهوية العربية – كما فعل أجداده وإن كان هذه المرة بقناع اسلاموي – وعلى إعادة رسم خرائط المنطقة, والحلم الذي لم يسقط بعد, في «استعادة» الموصل وكركوك وحمص.
هنا يكمن «سِرّ» كل هذه النرجسية والتعالي, التي ميزت «خطابه».. الأخير.
(الرأي2016-10-13)