الموت طحناً !!
أقل من ست سنوات، هي المسافة الزمنية الفاصلة بين إقدام الشاب التونسي محمد البوعزيزي (مواليد 1984) على إحراق نفسه في بلدة سيدي بوزيد التونسية، وبين إقدام الشاب المغربي محسن فكري (مواليد 1985) على إلقاء نفسه في شاحنة جمع النفايات وطحنها في بلدة الحسيمة، ليواجه أغرب وأصعب ميتة يمكن أن ترد على خاطر أي إنسان: الموت طحناً… وبين الحادثتين المؤلمتين، تقول التقارير أن أكثر من خمسين شابا عربيا، قد آثر الموت على الحياة، في ظروف مشابهة.
بائع الخضار التونسي، قدح شرارة الثورة التونسية، التي أشعلت بدورها ثورات وانتفاضات ما عُرف بـ “الربيع العربي” … أما بائع الأسماك المغربي، فقد فجّر بميتته الاستثنائية، براكين الغضب والاحتجاج الشعبيين في بلاده، حيث خرجت الألوف المؤلفة، تستنكر وتدين وتعبر عن الأسف والحزن والمرارة، لمأساة شاب عرف عنه دماثة الخلق وحسن السيرة والسلوك، مجسداً معاناة الملايين من أقرانه من شظف العيش وانسداد الأفق وقسوة رجال الأمن.
ما الذي جال بخاطر هذا البائع الجوّال عندما قرر في لحظة يأس مطبق، أن يلقي بجسده خلف أسماكه المصادرة، وأن يؤثر الموت طحنا مع أسماكه على الاستمرار في حياة لا حياة فيها …. وكيف وصل إلى القناعة، بأن تسليم جسده لأنياب المطحنة الفولاذية، هو آخر الحلول التي يتوفر عليها؟
لا شك، أن الشاب الذي ينتمي لأسرة كبيرة، ولم يكمل تعليمه بسبب ضيق ذات اليد، واجه عنتاً ومشقة في البحث عن مبلغ من المال، يستدينه لشراء أسماكه والاتجار بها، ولا شك أن أملاً كبيراً كان يحدوه في تسديد دينه، وشراء ما يسد به احتياجاته واحتياجات أسرته من عوائد تلك التجارة الدامية، لكن في لحظة عنت من رجال الأمن، وجد الرجل نفسه يطارد خيوط دخان، وارتسمت أمامه مسبقاً، صور الدائنين الذين سيطاردونه لاسترداد مالهم، وصور افراد عائلته الذين ينتظرون عودته الميمونة، محملاً ببعض أكياس الخبز والخضار وبقايا أسماك لم تجد من يشتريها.
لا شك أن فكري، كما البوعزيزي، والرجلان يتقاسمان الكثير من المشتركات،وصلاً سريعاً ومن دون إبطاء، إلى خلاصة قاطعة، بأن الحياة فقدت معناها بعد مصادرة “بسطتي” الخضار والأسماك، وأن ما بعدهما، لا يحمل معه، سوى المزيد من الذل والإذلال والعوز والفاقة … لا شك أن فظاظة رجالات ونساء الأجهزة المولجة مهمة إنفاذ القانون، كانت “الدفعة” التي انتظرها الشابان للإلقاء بنفسيهما إلى هاوية النار وبين الأنياب الفولاذية لعربة “الزبالة”… لم تجد محاولات البوعزيزي استرحام “الشرطية” لاستعادة بسطته، فأجابته بالفرنسية “D gage”– ارحل … ولم تنفع محاولات فكري استعادة اسماكه، والأرجح أن جوابه بكلمة مماثلة … تلك الكلمة التي تحوّلت إلى شعار لثورة تونس، ولا ندري كيف ستكون مفاعليها في البلد المجاور.
لقد فعل الشابان، كل ما بوسعها لتأمين مصدر عيش كريم لهم ولأسرهم … لم يكونا من الكسالى والقاعدين، طرقا جميع السبل بحثاً عن مكان تحت الشمس، أسوة بسائر خلق الله … لكن الأعين كانت لهما بالمرصاد، فكلما نجحا في فتح طريق، “تطوع” من يسارع إلى إغلاقها في وجهيهما، لكأننا مجتمعات وحكومات، فقد القدرة على الإحساس بألم أبنائها، إلا عندما تشتعل النيران في الأجساد الغضة، أو عندما “تفرم” الشفرات الفولاذية العملاقة عظامها.
قديماً قال ثاني الخلفاء الراشدين: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته” … لم يعد لدى ملايين الشبان العرب من وسيلة لقتل الفقر والجوع والبطالة … الفقر تحوّل إلى عامل قتل وقهر، يطحن هؤلاء من دون رحمة … ليس الفقر رجلاً لنقتله، لكن المتسببين به، هم رجال نعرفهم واحداً واحداً، نعرف أسماءهم ومصادر ثرواتهم، ولن نطالب بقتلهم، لن نفعل ذلك، فقد تغير الزمن وتغيرت الوسائل والأدوات، وسيخرج ملايين الفقراء والجياع والمهمشين، عاجلاً ام آجلاً، للقصاص من هؤلاء، وإعادة “ميزان العدالة” إلى نصابه.
مأساة البوعزيزي من قبل، وفكري من بعد، تذكراننا بأن أسباب الثورة والانتفاض، ما زالت ماثلة في معظم دولنا ومجتمعاتنا، إن لم تكن قد تفاقمت خلال السنوات الست الفائتة … وهي تذكرة، لكل من نام على حرير أوهامه، بأن سنوات “الربيع العربي” قد انقضت وانتهى أمرها …. فثمة الملايين من بيننا يشارطون الشابين التونسي والمغربي ظروفهما وتهميشهما… بعضم سيختار الطريق الذي سلكاه، لكن أغلبهم، سيختار طريقاً آخر، تماماً مثلما اختار ملايين التونسيين والمغاربة والمصريين وغيرهم، طريقهم إلى الساحات والميادين، في واحدة من اللحظات النادرة في التاريخ الحديث، والتي لن تقلل من “تاريخيتها” أن قوى “الثورة المضادة” قد نجحت في اختطافها، أو حرفها عن مسارها … التاريخ لا يسير في طريق مستقيم، طرق التاريخ متعرجة، وتعرف الكثير من لحظات الصعود والهبوط، ومن يضحك أخيراً سيضحك كثيراً.
(الدستور2016-11-01)