عازف الغيوم
"إنّ ثقافتين ستتصارعان في هذه البلاد على نحو شرس، ثقافة الفن التي أخذت تتدهور منذ الحروب التي كان يشنها صدام، وثقافة جماهيرية تقوم على إحياء العنف وغريزة الدم ستصعد لتحل محل الدولة العنيفة التي تهاوت، وتهشّمت".
بالرغم من أنّها من الروايات خفيفة الظل، رشيقة، لا يتجاوز عدد صفحاتها 110 صفحات من القطع المتوسط؛ إلاّ أنّ "عازف الغيوم" للروائي والأديب العراقي علي بدر، تنجح في سبر غور الشباب العربي والأزمة الهويّاتية لديه، وتناقضاته وأحلامه وهواجسه، وبحثه عن أفق آخر غير موجود في بلاده عبر حلم "الهجرة".
يصف بدر روايته على غلافها الثاني بأنّها "رواية ساخرة عن الأفكار، الفن، البورنوغرافيا وتناقضات السياسة والدين والواقع"، وهي ساخرة بالمعنى العميق، وليس السطحي، فهي تسخر من حالة المجتمعات العربية، من خلال المفارقات الثقافية والنفسية والاجتماعية؛ المثال العراقي اليوم، انتشار التشدد الديني بعد النظام الدكتاتوري التسلطي، وساخرة من اليمين المتطرف في الغرب، ومن واقع الجاليات العربية والمسلمة هناك.
الرواية تتحدث عن قصة شاب عراقي (نبيل)، يعشق الموسيقي، يعزف التشيللو، ، وينظر إلى العالم من خلال هذه الهواية التي تهيمن عليه، فتجعل منه حالماً رومانسياً، متشبّعاً بالافكار الفلسفية الغربية، ييأسس من واقع مجتمعه العراقي، ولم يعد قادراً على التكيّف معه، بعد أن قام متطرفون بتكسير آلته ومحاولة فرض ثقافتهم العصابية عليه، فيقرر الهجرة عبر التهريب، إلى بلجيكا.
بعد الوصول إلى بروكسيل، تكون صدمة نبيل من أنّ تلك الصورة المثالية لـ"المدينة الفاضلة"، التي تحدّث عنها الفارابي (وتتخيلها الشريحة العظمى من الأجيال العربية اليوم في الغرب) وتلك التي خزّنها "خياله الخصب" عن نمط الحياة الغربية (كما في الأفلام والميديا) ليست صحيحة.
تبدأ صدمته منذ اللحظة الأولى ليبقى الروائي يطرح السؤال المقصود: هل نحن في بلجيكا؟ عندما يجد أنّ الشارع الذي يقطنه، تعيش فيه أغلبية من المسلمين، الأتراك والأفغان والعرب المغاربة، وأنّ المحلات ونمط الحياة يستنسخ ذلك الموجود في المجتمعات العربية، وهو الذي هرب منه نبيل إلى أوربا.
يتعرّف الشاب اللاجئ على فتاة بلجيكية، ويقوده موقفه الغاضب من التيار المتطرف وسط الجاليات العربية المسلمة في الغرب وفي بلاده إلى تأييد أفكار اليمين المتطرف في بلجيكا المعادي للمهاجرين ابتداءً، وتسوقه قدماه تحت الشعور بالفراغ الروحي والارتباك الثقافي والنفسي إلى مشاركة اليمين في المظاهرة المنددة بالمسلمين، فيتم اكتشاف "هويته" من قبلهم، ويكاد أن يفقد حياته بين أيديهم، لولا أن خلّصه "السلفيون" (الذين يتحاشاهم ويكرههم) من بين أيدي المتظاهرين، ويالها من مفارقة طريفة في الرواية!
تنتهي الرواية بلا نهاية حاسمة! إذ نجد بطل الرواية في النهاية يقشّر برتقالة على شرفة شقته، وهي "نهاية" مقصودة تماماً، شبيهة بنهاية رواية "الكافرة" لعلي بدر نفسه، ويريد من ذلك – في ظني- القول بأنّ الرواية هي "مقطع" من المشهد الحالي، متماهية مع سياقه المتواصل، لذلك لا يوجد داعٍ لفبركة نهاية لمعضلات مستعصية!
لعلي بدر، الأديب العراقي المقيم في بلجيكا، مجموعة من الروايات المهمة، في مقدمتها بابا سارتر، وبائع التبغ، ثم الكافرة (كتبتُ عنها سابقاً)، وعازف الغيوم، وهو من الجيل الروائي العراقي الجديد المبدع، الذي يتجاوز مفهوم الرواية العربية بمعنى أنّها حكاية للتسلية، إلى أنّها مرآة تعكس ثقافة وفلسفة الروائي والأديب وتختزن أبعاداً معرفية وثقافية، وتحاول تظهير المشكلات والتحولات الاجتماعية.
لذلك نجد أغلب رواياته تفكك أزمات الهوية لدى الأجيال الشابة في المجتمعات العربية أو المتواجدة في الغرب، وتشتبك مع الصراع الثقافي والانقسام الاجتماعي، والحركات المتطرفة، ووضع الجاليات العربية والمسلمة في الغرب..
(الغد2016-11-11)