بناة الدولة

تم نشره الخميس 19 آب / أغسطس 2010 11:22 مساءً
بناة الدولة

المدينة نيوز – توجان فيصل - : أخوض في موضوع مقالتي هذه من خبرة شديدة الالتصاق بحقائق الداخل الأردني فيما يخص تشابك السياسي مع الاقتصادي, توفرت لي نتيجة عملي في موقع مسؤول متقدم في الإعلام التنموي أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن المنصرم.. وهذه التقدمة ضرورية للتأشير على وجود كم من التفاصيل كبير يدعم رؤوس الأقلام التي ترد في هكذا مقال, بما فيه عنوانه وخلاصته اللذين لا أريد أن يفهما على أنهما انحياز عاطفي لشعب أنا منه , بل كحقائق "علمية" , سياسية واقتصادية , دور العاطفة الوطنية اقتصر على تحفيزي لإلقاء بعض الضوء عليها بعد أن غيبت تحت ظل من ظلهم أطول لاحتكارهم مواقع بعينها .
لم تبق سياسة داخلية أو خارجية للأردن لم تبرر بزعم أنها محكومة بالمنح والمساعدات والقروض, سواء في الاقتصاد أو في السياسة الداخلية أو الخارجية . بل إن مشكلتنا السياسية والاقتصادية كلها نتجت عن خيار رسمي مبكر تمثل في الاعتماد على "الدور السياسي" المؤهل لتلك المعونات والمنح والقروض , بديلا عن التنمية الاقتصادية الهادفة للاستقلال الاقتصادي ( وليس الاكتفاء الذاتي الذي ثبت بطلان نظريته ) وصولا للرفاه الذي كان - وما يزال- ممكنا ,كون البلد لديه إمكانات وثروات هائلة ومتنوعة , فيما سكانه قليلون .
ولبيان حجم ثرواتنا أشير لدراسات مستقلة قام بها خبراء أردنيون ( دراسة الدكتور سفيان التل والمهندس جورج حدادين وأخرى سابقة للمهندس محمد أبوطه تبين أن الأردن يمتلك ثروات معدنية هائلة منها ربع مليار طن متري من اليورانيوم موجود في مليار ونصف المليار من خامات الفوسفات , ومئة مليار برميل من الصخر الزيتي, ومليار طن من الحجر الجيري, وملايين الأطنان من النحاس والحديد والمنغنيز وغيرها من المعادن , وحوالي أربعين مليار طن من أملاح البحر الميت, وعشرة مليارات طن من رمال السيلكون (الكوارتز ) والتي هي ثروة مستقبلية تفوق قيمتها قيمة النفط .
والإصرار على تسويق الدور السياسي كمتنج رئيسي يكاد يكون وحيدا, دمر في الحقيقة القاعدة الإنتاجية للبلد وضخم الاستهلاك للمنتجات المستوردة بشكل سرطاني, في محاباة ضريبية للمستورد وتراجع مضطردا عن حماية الإنتاج المحلي, يرافقه إهمال ما يلزم لتحفيز منافسته في الداخل ولأغراض التصدير , قضت على فرص إنتاجية كانت واعدة .. وما بقيت منها قائمة كانت نتيجة جهود الأردنيين بمعزل, ومرارا بالضد من, سياسات الدولة. فحتى الفوسفات الذي أصبح الآن في دائرة الضوء ولكنه لم يعد في أيدي الأردنيين كون شركة الفوسفات بيعت بزعم الخصخصة وجذب الاستثمار ,استخراجه بدأ بمجهود القطاع الخاص الأردني في ثلاثينيات القرن الماضي الذي كان ينقل خاماته على ظهور الحمير في المنجم ليصل بالشاحنات إلى ميناء حيفا ,واتسعت أعمال شركة الفوسفات بمساهمة الأردنيين بوفوراتهم في شراء أسهمها. وكل هذا أضاعه أخيرا نهج المضاربات الرسمي التي قدمت له تسهيلات جعلته يحل محل أي اعتبار "للإنتاج", أدى لبيع جائر خاسر مثير للتساؤل حتى بمعايير المضاربة ذاتها, لأصول إنتاجية في مقدمتها شركتي الفوسفات والبوتاس .. وحتى الإنتاج الزراعي لم يعد مجديا في ظل تقسيم أغلب الأراضي الزراعية في وحدات صغيرة غير مجزية زراعيا.. ومثله سياسات تكاد تكون قضت على الثروة الحيوانية في بلد كان بدوه رعاة بشكل رئيس, وبات يستورد جل استهلاكه من اللحوم. وقد يكون الأردن البلد العربي الوحيد الذي شهد إضرابا "للرعيان" واعتصاما لهم مع قطعانهم قبل سنتين, سدوا به الطريق الرئيس المؤدي لمطار الملكة علياء "الدولي" ..في ثنائية بشر ومكان لا تخلو من رمزية عميقة .
وقبل المضاربة والبيع الجائر, ظلت ثروات الأردن الهائلة تلك معتم عليها أو مهمشة ,وصولا لأسوأ وصفة, وهي كونها مقيدة .فوجود اليورانيوم في خامات الفوسفات الذي تبدى مؤخرا لعامة الأردنيين وللعالم, كانت تعرفه الخاصة , سياسيون واقتصاديون وإعلاميون .. والمختصون في الحقل الثالث ( الإعلامي) كانوا ممنوعين من الحديث صراحة في الحقلين الأولين, ولهذا كنا نقف في دعواتنا لتكرير وتصنيع خامات الفوسفات بدل تصديره ك "تراب" ,عند منافع " القيمة المضافة", أو عند دعم مطالبات عمال الفوسفات بتعويضات مخاطر العمل دون تحديدها مفصلة .
وحتى إذا تركنا المعادن "المسيسة" بشكل عال,والتي يقع الفوسفات في قلبها لاحتوائه على اليورانيوم ,فإن معرفتنا في السبعينيات لامتلاكنا أفضل أنواع الرمل للصناعات الزجاجية كان يواجه بإفلاس وتصفية وتكدس آليات مصنع الزجاج الحكومي, والذي جرى تداوله في الإعلام الرسمي بصورة وبقدر يكفيان لإقناع العامة بأننا لا نملك ما يلزم لتلك الصناعة تحديدا .
وقصة الرمل الزجاجي الذي هو واحد من المشاريع الحكومية المفلسة بسبب سياسات لم تتغير منذ الفترة العرفية وحتى اليوم, باستثناء أن أخبارها أصبحت تنشر بعلانية أكثر, فيما أصبحت الحكومات أقل حساسية لما يقال عن فسادها ولا يعنيها أن توسع شتما ما دامت تفوز بالإبل . ومنه ما نشر في صحف المعارضة في تسعينيات القرن الماضي ( في فترة ما اسمي بعودة الديمقراطية ) عن إفلاس مصنع الغزل والنسيج الحكومي الذي كان واجهة لفساد مجموعة بنك البتراء . وقصة مصنع النسيج تلك تبقى ذات دلالة خاصة , كونه في ذات الفترة التي كان يجري فيها إفلاس المصنع , كنا تجاوزنا توقع اتفاقية " سلام" مع إسرائيل لندخل في تنفيذ ما زعمنا انه من خيراتها, ومنها إنشاء ما اسمي بالمناطق الصناعية المؤهلة التي نقلت لها تحديدا صناعات "ألبسة" إسرائيلية . ولكن ما لبث أن ثبت أن " القيمة المضافة " التي يفترض أن يستفيد منها الأردن جاءت في السالب. فإسرائيل لم تستول فقط على حصتنا في الأسواق الأمريكية التي أرفقت بشرط مشاركة إسرائيلية لم نبخل في بحبحتها ,بل هي استولت أيضا على منافع بنيتنا التحتية التي أنشأت بكلف مبالغ فيها ( باستثناء ما أنشأته القوات المسلحة من طرق وغيرها ) استهلكت جل إنفاقنا الرأسمالي طوال عقود, وجرى بزعمها تحميلنا مديونية بلغت ثمانية مليارات دولار بحلول عام 89 ,عام الانتفاضة الشعبية .. وهي مديونية تمت مضاعفتها في العقد الأخير, رغم زعم أن بيع أصول الدولة كان لتسديد جزء منها.
هذا مع أن كلفة البنية التحتية (على تضخيمها )كانت اقل من مجموع تحويلات الأردنيين العاملين في الخارج. وهي عمالة اتسمت بدرجة عالية من الكفاءة لحد اعتبار العديد من كوادرها خبراء استقدموا في فترات بناء الدول الحديثة في الخليج.أي أن الأردنيين الذين بنوا الأردن ليصبح , في أقل من قرن, دولة عصرية بجهود مواطنيها بدءا من الراعي والفلاح وصولا للصانع والتاجر والمعلم والعالم , وبدون أن يتاح لهم استثمار سوى نذر يسير من ثرواتهم تلك , وبمبادرات وجهود خلاقة رغم سياسات رسمية معيقة مما قدمنا بينات عليه ومشاهدات حية منه.. هؤلاء الأردنيون ساهم فائض جهودهم وخبراتهم وكفاءتهم في بناء أكثر من دولة عربية فتية.
فكيف يعقل أن يصبح أكثر من نصف الخمسة ملايين "بناة الدولة "- أو حتى الدول – هؤلاء, وبعد أن سجل أبناؤهم أرقاما قياسية في نسبة التعلم والتأهل لم يكن متاحا جله لآبائهم وأجدادهم الذين أنجزوا كل هذا قبلهم.. غير قادرين على إبقاء سقف بيت مأجور أو متهالك فوق رؤوسهم, أو إبقاء الحياة تحت السقف "الساتر" في حدودها الدنيا إنسانيا , دون أن يمدوا أيديهم في طلب معونة , أو تمد باسمها أيدي الدولة التي بنوا ؟
لو استعاد الأردنيون ثرواتهم, خاما كما جرى تقييمها عند البيع, وليس حتى مؤسسات كما شادوها, لأصبح الخمسة ملايين أردني ليس فقط أغنياء عن طلب المعونة, بل مترفون.. أمر ينبغي أن يحدد لنا أين تكمن قضيتنا وما هو عنوان صراعنا. وهو حتما ليس صراعا بين الأردنيين لكثرتهم وقلة مواردهم , ولا هو صراع على مناصب لم تعد متاحة لأي من أكفاءهم .. وبخاصة هو ليس بين مفقريها في الأغوار والبوادي والقرى والمخيمات.( الراية ) .
 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات