عالم يحتضر وعالم يتشكل
"الانترنت ليس مجرد تقنية، والكمبيوتر ليس مجرد جهاز".
سمح مجلس الوزراء أخيرا باستيراد الطابعات الثلاثية، لقد كان حظرا يعكس خوف المصالح والطبقات السائدة وليس متصلا بأبعاد أمنية، وإن جرت مبالغة في التركيز على هذه المسألة فليس إلا للتغطية على مخاوف القائمين على الأسواق التقليدية من التحولات. وعلى أي حال فإن الطابعات ثلاثية الأبعاد ليست المثال الوحيد على النشوء والارتقاء والخوف والبقاء والانقراض في عالم الأفكار والمؤسسات، ولكن يمكن تعميم النظرة على جميع القطاعات والمجالات.
تمثل الصحافة ووسائل الإعلام مثالا حيا وصارخا على نهاية كثير من المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية التي سادت في عصر الصناعة، ولكنها تواجه اليوم نهاية حتمية لتحل مكانها منظومات جديدة ومختلفة في السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام.
أصبحت الصحف ووكالات الأنباء ومحطات الإذاعة والتلفزيون وسوف تتبعها قريبا المدارس والجامعات في مواجهة مراجعة استراتيجية لمعنى وجودها واستمرارها، وفي حاجة إلى إعادة صياغة وتعريف رؤيتها ورسالتها من جديد، وتعيد بناءها أيضا من جديد. المسألة ببساطة أننا بعد الانترنت والفضائيات والحوسبة دخلنا في مرحلة سياسية واقتصادية جديدة مختلفة عما سبق اختلافا كبيرا وجذريا، وأنها مرحلة تعيد صياغة المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول والمجتمعات، فالحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة والمعلوماتية والاتصالاتية تغير كل شيء، الموارد والعلاقات والأعمال والتعليم والمهن والاقتصاد ودور الدولة وتأثيرها ودور الأفراد والمجتمعات... لم يعد ممكنا الاستمرار بالسياسات والاساليب والهياكل التي كانت قائمة قبل الانترنت، هذا ليس خيارا سياسيا أو تقنيا.
ما يجري اليوم من إصرار على الاستمرار في السياسة والادارة كما كانت من قبل يشبه الإصرار على الكتاتيب ورفض المدارس والجامعات، ورفض الراديو والإصرار على الراوي حامل الربابة، والإصرار على استخدام الجمال ورفض السيارات، ورفض الكهرباء، لم يكن الانتقال إلى الكهرباء والسيارات والراديو مجرد استبدال تقنية بأخرى ولكنه نظام سياسي اجتماعي ثقافي جديد يحل محل نظام آخر، وطبقة جديدة تحل محل طبقة أخرى، ونخب جديدة وأفكار وقيم وثقافات وعلاقات جديدة.
وهذا ما يحدث/ سوف يحدث... كل هذه الطبقات والمؤسسات والسياسات والأفكار والمنظومات والعلاقات يجب أن ترحل، لا مجال لبقائها، فبقاؤها لا يعتمد على قرار سياسي ولن تستطيع أي سلطة الاحتفاظ بهذه المنظومات والسياسات والعلاقات، ثمة إعلام جديد ومدارس جديدة وتعليم جديد ومهارات جديدة، وبطبيعة الحال سوف تحلّ سياسات وأفكار وعلاقات ومنظومات عمل موارد وإدارة جديدة، .. وطبقة جديدة.
الحالة القائمة اليوم في مواصلة إدارة وتنظيم الصحافة والجامعات والمدارس والمؤسسات الإعلامية والإدارية والبلدية والسياسية تحولها إلى محميات للحفاظ على الكائنات المهددة بالانقراض. وأما الحياة الحقيقية فتتشكل وتمضي بعيدا عن هذه المحميات والتكايا، والتي لن يغير من حقيقة أنها تكايا وأماكن مهملة أن تتسمى بأسماء مختلفة وأن تنفَق عليها الأموال والموارد وأن توفر لها الوظائف والمباني والأجهزة.
(الغد 2016-11-16)