الهوية والمناعة
عبارتان اطلقهما آخر اثنين من بابوات الاقباط في مصر تصلحان نموذجا لكل ما يمكن ادراجه في خانة المواطنة الاصيلة، احدهما قال ان مصر وطن يسكن فينا ولا نسكن فيه، اما الاخر فقد قال ان وطنا بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن !
ولولا هذا الفهم العميق لتاريخ مصر والكيمياء الناتجة عن انصهار العنصرين لما انتهى المشهد الى ما هو عليه الان، وما دُمّر او احرق من كنائس في مصر خلال العقود الاخيرة كان كفيلا بانفجار اثني لولا هذه المناعة التي تلقّح بها الاقباط منذ زمن بعيد، والأرجح ان فشل مسلسل الاحداث التي تستهدف الوحدة الوطنية يعود الى ادراك المصريين بأنهم مصريون اولا واخيرا، وان خرائط اللورد كرومر ومن بعده برنارد لويس وبول فولفويتس وليفي بقيت خطوطا على ورق، ومصر لم تكن خارج مخططات التقسيم التي حلم بها الاستعمار الجديد في مرحلة ما بعد الحداثة .
فقد عزف بعض هؤلاء على وتر النوبة، وعلى الامازيغية لكن عزفهم النشاز لم يطرب احدا ، ان المنطق الذي يرى اصحابه بأنه وطنا بلا كنائس اهم من كنائس بلا وطن ضمانة تاريخية للالتئام الوطني واستراتيجية دفاعية لا تتراجع، ولو كانت الطوائف في العالم العربي كله تدرك ما يمكن ان تلحقه الهويات الفرعية بالهوية القومية الام لما فقدت رشدها الوطني، وتم تدارك الكثير من الدمار والدّم .
ولا يمكن لأية استراتيجية مهما تسلحت بالسياسة او الثقافة المؤدلجة ان تبلغ اهدافها في التشظية والتقسيم ان لم يكن هناك استعدادات محلية، لهذا تسعى الدوائر الاستشراقية التي تتغذى من مخابرات ومراكز ابحاث الى بث ثقافة مضادة للتاريخ ولكل ما انجزته الدولة القومية .
ان ما يراه هؤلاء حلالا علينا وحراما عليهم يفتضح منهج تفكير لم يغادر القلاع الكولونيالية وان كان يرتدي لكل زمن قناعه !
(الدستور2016-12-18)