تحويل الصراع عبر منظمة التحرير
ما تم تجريبه في الساحة الفلسطينية لحل الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس"، هو محاولة "حل الصراع" بالتوصل إلى اتفاق ينهي الانقسام. ومع مرور الوقت (تسعة أعوام على الانقسام الرسمي)، فإنّ القناعة الشعبية هي أن ما يحدث "إدارة انقسام (صراع)"، وتعايش مع الوضع الراهن، انتظارا ليوم يحدث فيه تغيير يؤدي إلى انتصار طرف على الآخر. وواقع الأمر أنّه في نظريات التعامل مع الصراع، هناك آلية ثالثة، تسمى "تحويل الصراع". ويمكن عملياً اللجوء إلى هذا الأسلوب؛ وتشكل منظمة التحرير الفلسطينية ميداناً ممكناً لتجربة هذه المقاربة.
يقوم نهج تحويل الصراع على الابتعاد عن قضية الصراع المباشرة، والذهاب إلى العمل على تغيير داخل أطراف الصراع، ومناخه.
لا يقتصر نقص الإرادة السياسية لحل الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني على قيادات الطرفين، أو أطراف دولية خارجية، بل هناك تردد حتى بين كوادر ومستويات قيادية متوسطة؛ سواء في الأجهزة الأمنية أو الأجنحة المسلحة والتنظيمية للفصائل. وبالتالي، يبدو أن تنفيذ أي اتفاق يوقع، أو يعلن، بين الطرفين، يصطدم بتردد قيادات، ومعارضة قوى إقليمية ومحلية، وحتى برفض من كوادر ميدانيين، في قيادات أجهزة السلطة (في كل من غزة والضفة الغربية) وداخل التنظيمين.
ما تزال الفصائل هي أكبر القوى المنظمة، وخصوصاً حركتي "فتح" و"حماس"، في الساحة الفلسطينية. لكن دورها الميداني الشعبي يتراجع. وهناك تواجد للفصائل على شكل أجهزة نظامية وبيروقراطية داخل فلسطين، وتحديداً داخل الأراضي المحتلة العام 1967، مع شبه غياب تام شعبياً في الشتات، ومن دون قدرة على تحريك الشارع. فضلا عن عدم طرح فكرة العمل أو التواجد في الأراضي المحتلة العام 1948.
هناك أجيال من الفلسطينيين، خصوصاً في الشتات، تم استثناؤها من منظمة التحرير الفلسطينية التي تشكلَ آخر مجلس وطني فيها، بشكل حقيقي، نهاية الثمانينيات (ما اجتمع بعد ذلك قائم على العضوية القديمة)، وتغيب الفصائل تقريبا في الشتات، ويتراجع دورها الشعبي في الداخل.
تقتصر النقاشات بشأن تجديد منظمة التحرير، تقريبا، على الحديث عن اتفاق بين الفصائل على طريقة جديدة لتشكيل المنظمة، ومجلسها الوطني ولجنتها التنفيذية. بينما هناك آلية أخرى، أكثر ديمقراطية، قادرة على تفعيل الشارع الفلسطيني، ودفع الوحدة الفلسطينية إلى الأمام، وإحداث تغير في المزاج العام؛ وقادرة على تفعيل الطاقات الفلسطينية الشابة، وتجديدها، وطرح آلية للفصائل لتفعيلها وتحريك كوادرها وقواعدها نضاليا وديمقراطياً؛ ولا تحتاج لاتفاقيات.
هذه الآلية هي تفعيل الاتحادات المهنية والشعبية، والسماح بالتالي لأجيال جديدة بالدخول لمنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال اتحادات الأطباء، والمهندسين، والمعلمين، والأدباء، والطلبة... إلخ. وهذه الاتحادات هي التي تفرز غالبية أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني (بحسب نظام منظمة التحرير الفلسطينية الحالي).
لو فُعّلت هذه الاتحادات التي لم تجر فيها انتخابات منذ سنوات طويلة، يمكن للفصائل أن تطرح ممثليها، ويمكن للمستقلين أن يطرحوا أنفسهم؛ ولتحولت مؤتمراتها وانتخاباتها لمكان لصناعة الأفكار، وفرصة لتجمع الشعب الفلسطيني من مختلف أماكن وجوده، ضمن عمليات واتحادات جامعة. وبالتالي، يمكن التفكير بإنهاء حالة التشظي في العمل السياسي، ويمكن تقليص تهميش الفلسطينيين في الشتات.
هذه الاتحادات يمكن أن تكون آلية لإفراز قيادات شابة جديدة، ولحشد الطاقات لتعبئة الشعب الفلسطيني، وحتى تقديم خدمات يومية؛ تعليمية ومهنية وتدريبية لشرائح شبابية واسعة، فضلا عن تفعيل العمل السياسي الشعبي.
هذه الآلية لا تنتظر حل قضايا صراعية حول السلطة والموظفين بين حركتي "فتح" و"حماس"، وتعفي أيضاً من الوقوع تحت الضغوط الإقليمية والدولية الرافضة للمصالحة أو المعارضة لها، لمصلحة عملية إصلاح تأتي من الأدنى للأعلى. وتعفي كذلك من جدل البرنامج السياسي، وضرورة الاتفاق حوله، كنقطة سابقة لترميم البيت الفلسطيني.
هناك فوائد عديدة لمثل هذا النهج. لكن من المفهوم أنّه يهدد بحالة ديمقراطية حقيقية، تؤدي إلى تراجع القبضة على القرار الفلسطيني، سواء من يد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى من قبل الفصائل، وسيفتح باب نقاش قضايا مثل العلاقة بين منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية (الدولة)، ولا يسمح لأي فصيل بـ"فيتو" على القرار الفلسطيني، وعلى تحديث المؤسسات الفلسطينية. ولهذا، ربما، ترفض الفصائل النظر في مثل هذه الآلية. لكن، ربما، على مستقلي وأكاديميي وشباب وطلبة الشعب الفلسطيني الضغط بهذا الاتجاه.
(الغد 2016-12-20)