مغزى التحولات الروسية
بعد تأخير طويل، استغرق أكثر من عام، تمكنت سياسة التدخل الجوي الروسي المكثف في سورية، وبثمن أخلاقي باهظ، من تحقيق إنجاز عسكري ملموس، تمثل في معركة حلب التي بدت كنقطة تحوّل في مسار الحرب السورية المتراوحة بين المد والجزر، الأمر الذي سمح لموسكو أخذ "صورة نصر" لا لبس فيها، ومن ثمة الاتكاء على هذه الصورة لإطلاق عملية سياسية قادرة على تحويل الإنجاز المتحقق في الميدان، إلى مكسب دبلوماسي مرغوب فيه على مائدة التفاوض، مع شريك سياسي يعتد به.
إذ فيما كانت الأنظار تتجه إلى نقل الجهد الحربي من حلب الشرقية إلى رقعة جغرافية أخرى، مثل إدلب أو الغوطة أو الجبهة الجنوبية، وكانت الرغبة في استثمار الزخم العسكري في أوجها، والبناء على ما تحقق في حلب في بداياته الأولى، توقفت محركات الآلة الحربية الروسية فجأة، وحدثت استدارة غير متوقعة، باتجاه البحث عن حل سياسي، جرى الإعداد له على عجل بين اللاعبين الكبار في الأزمة التي تقترب من إكمال عامها السادس؛ أي بين روسيا وكل من تركيا وايران، وبغياب كامل لطرفي الأزمة داخليا.
ومع أنه يصعب القول إن إيران المتماهية تماماً مع حليفها بشار الأسد، قد بدلت جوهر موقفها بعد معركة حلب، التي فتحت شهية نظام آيات الله على المزيد من المكاسب الإضافية في طول البلاد الشامية وعرضها، فإنه يمكن الافتراض بالمقابل أن تركيا، وهي اللاعب الإقليمي المناظر، أجرت سلسلة مترابطة الحلقات في سياستها السورية، ولا سيما بعد الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) الماضي، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام الاستدارة الأكثر أهمية في سياق الأزمة المستفحلة؛ نعني به التحول في سياسات روسيا السورية.
فبعد أن أمسكت موسكو بمعظم، إن لم نقل كل أوراق اللعبة في سورية، وباتت صاحبة اليد العليا في الشأن السوري، وجدت أن اللحظة السياسية المناسبة قد أزَفت أخيراً للقيام بتحول ذي مغزى، يؤسس لبناء إطار دبلوماسي من خارج صندوق المفاهيم الروسية الخشبية، قاعدته الانفتاح أولاً على المعارضة المسلحة التي كانت تصفها بالجماعات الإرهابية، والعمل المنسق ثانياً مع تركيا، المأزومة داخلياً والمخذولة أميركياً، لكسب هذه الدولة الأطلسية الوازنة، وربما انتزاعها من بين أيدي التحالف الغربي، على نحو يحقق أعز الأمنيات الاستراتيجية التاريخية الروسية.
في سبيلها إلى اصطياد السمكة التركية الكبيرة، ليّنت روسيا مواقفها التقليدية، وجنحت إلى التصالح، وهضمت اغتيال سفيرها في أنقرة بسهولة، واستخدمت الورقة السورية كطُعم سياسي، وقدمت لأنقرة كل ما يغريها لتبديل الرهانات القديمة، وكسب مزيد من الأرباح السياسية، ولو كان ذلك بفتح حوار مباشر مع الجماعات السورية العسكرية الحليفة لتركيا، مع إيماءة بتهميش دور إيران، وربما التمايز عنها وفك التحالف معها في وقت لاحق، إذا ما تقدم الحل السياسي، وانفتح الأفق أمام تسويات محتملة، لا تستجيب بالضرورة العملية للمشروع الإيراني الإمبراطوري المذهبي في المنطقة.
ويبدو واضحا أن روسيا أدركت حدود القوة، وتحسبت جيداً لمخاطر ضياع اللحظة السياسية المواتية؛ هذه اللحظة التي قد لا تتكرر في المدى المنظور، إذا ما انجرفت موسكو وراء الرؤية الإيرانية التي تجاهر باستكمال معركة حلب حتى النهاية المستحيلة. كما يبدو أيضاً أن القيادة الروسية باتت تخشى من حدوث متغيرات دولية محتملة، قد تؤدي إلى زيادة التورط في الكثبان السورية المتحركة، والانزلاق في حرب مفتوحة تصب القمح كله في الطاحونة الإيرانية، وهو ما قد يحول روسيا إلى مجرد لاعب بين متنافسين، بعد أن كانت اللاعب الرئيس في أزمة صارت تحت السيطرة النسبية.
إزاء ذلك كله، فإنه يمكن الافتراض بواقعية، أن مغزى التحولات الجارية في الموقف الروسي، لا يُقرأ من منظور الحالة السورية وحدها، على رغم أهميتها الشديدة، وإنما يُقرأ على نطاق استراتيجي أوسع، يشمل ايران وتركيا، كلاً على انفراد؛ ويمهد لصفقة جيوسياسية أعظم، قد يتم عقدها مع الإدارة الأميركية الجديدة، خصوصاً إذا ما تخلت روسيا عن مغامراتها الحربية المثيرة للمخاوف الغربية، وبدت أكثر تساوقاً مع دور الدولة العظمى الراشدة في طموحاتها الإقليمية، والكفؤة في إدارة علاقاتها الدولية، بتوازن أكثر وبمسؤولية أممية رفيعة.
الغد 2017-01-03