حتى تفرقنا الشهادة!
لم تحظ ظاهرة "النساء الجهاديات" بما تستحق من الدراسة والتحليل والقراءة المعمّقة، بالرغم من أنّها شهدت "طفرة" مرعبة مع تنظيم "داعش"؛ إذ نجح التنظيم في استقطاب مئات النساء من أوروبا والعالم العربي، فضلاً عن النساء العراقيات والسوريات المتزوجات من أبناء التنظيم، وغير المعروفات، ما أصبح يشكّل بالفعل "مجتمعاً هجيناً" قائماً في الأراضي التي يسيطر عليها "داعش"؛ عائلات من رجال وأطفال ونساء.
اختزل الإعلام الظاهرة وسطّحها، وتعامل معها عبر "كلاشيهات" وأفكار معلّبة تداعب المخيال الاجتماعي، أكثر مما حاول نقل الحقيقة. وشارك في هذه اللعبة كل من الإعلام العربي والغربي، وإن كان الإعلام الغربي أكثر موضوعية –كالعادة للأسف- في تقديم تحقيقات استقصائية جادّة عن العديد من الحالات النسائية الداعشية، بينما الإعلام العربي بقي حبيس الرواية الأمنية الموجّهة.
في المقابل، صدرت دراسات وكتابات مهمة عن الظاهرة النسوية الداعشية في أوروبا (وأعمل مع زميلي حسن أبوهنية على إنجاز كتاب شامل عن الظاهرة، سيصدر قريباً عن مؤسسة "فريدريش أيبرت")، من أبرزها دراسة بعنوان "حتى تفرقنا الشهادة: الجندر وظاهرة داعش" (‘Tell Martyrdom Do Us Part’: Gender and the ISIS Phenomenon)، لكل من إيرين ماري سالتمان وميلاني سميث (عن مركز الحوار الاستراتيجي في لندن، الذي أصبح متخصصاً في هذه الظاهرة أوروبياً). وتتناول هذه الدراسة ظاهرة الجهاديات الأوروبيات من خلال قرابة 100 حالة من 15 دولة غربية، وتعتمد على قاعدة بيانات عمل على إنشائها مركز الحوار الاستراتيجي مع المركز الدولي لدراسة الراديكالية.
تتخصص هذه الدراسة في مجموعة من الحالات المهمة، ودراسة حساباتها الاجتماعية، من بريطانيا بدرجة رئيسة، ومن استراليا، مثل المراهقات الثلاث (15-16 عاماً) خديجة وأميرة وشاميما، اللواتي كنّ من المتفوقات في مدرستهن في لندن، ويعشن حياتهن كأي مراهقات، وأميرة كانت متفوقة رياضياً، وقد سبقتهن إلى الرقة صديقتهن شارمينا.
ومن ضمن الحالات المهمة، التوأمتان زهرة وسلمى، من أصول صومالية، وعمرهن حين ذهبن في تموز (يوليو) 2014، كان 16 عاماً، وكانتا تعيشان في مانشستر، وقد سبقهما شقيقهما (21 عاماً) قبل عام إلى الرقة.
وهناك الطبيبة اللغز، التي تطلق على نفسها اسم "شمس"، ولها مدونة تكتب فيها يومياتها بعنوان "يوميات مهاجرة"، عمرها حين ذهبت قبل قرابة 3 أعوام، كان 27 عاماً، واسمها إلى الآن غير معروف إعلامياً. وبالرغم من أنّها ماليزية وتتقن لغات ثلاث (الأوردية، والماليزية، والانجليزية)، إلا أنّ قناعة الباحثين في الدراسة (من خلال مؤشرات متعددة) أنّها عاشت فترة في بريطانيا. وتعدّ شمس من أكثر النساء المعروفات على صعيد مواقع التواصل الاجتماعي، لنقلها تفاصيل مثيرة عن حياة المرأة الداعشية، ولعملها كطبيبة وتجربتها في الهجرة إلى "داعش".
وهناك عائلة استرالية كاملة هاجرت من استراليا إلى الرقة، الزوجة اسمها تارا نتليتون، ولديها ابنتان؛ الكبرى اسمها زينب شروف 14 عاماً، وهناك صديقة مقرّبة من العائلة هاجرت إلى هناك هي زهرة دومان.
بالطبع، هذه حالات دراسية محدودة، وهناك مئات النساء المهاجرات إلى تنظيم "داعش". لكن قيمة الدراسة أنّها تتتبع الحالات المذكورة قبل الانضمام إلى التنظيم، إلى ما بعد وصولهن إلى هناك، وزواجهن، ثم أمومتهن، وغالباً بوصفهن "أرملات صغيرات"، لأنّ مصير الرجال على الأغلب (في مثل هذا المجتمع الحربي) هو القتل، فتضعنا الدراسة –من خلال تتبع حساباتهن على مواقع التواصل الاجتماعي- في أجواء النساء في داخل التنظيم، والتحولات السيكولوجية والفكرية والسيسيولوجية التي تحدث لهن وتحيط بهن.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ الباحثتين تبدآن برفض الصورة النمطية من عرائس الإرهاب وجهاد النكاح، وتضعانا أمام الشروط الموضوعية التي تحيط بظاهرة هجرة النساء إلى "داعش".
الغد 2017-01-06