عن احتكار الحق والإقصاء في الخطاب الديني
نكرر دائما أن هذه الموجة من العنف التي تجتاح المنطقة ليست ظاهرة فكرية، بل هي نتاج ظروف موضوعية؛ سياسية بالدرجة الأولى، وحين تغيب هذه الظروف ستتوقف هذه الموجة بالتدريج، سواء بسبب توقف مدها من الشباب، أم بتراجع رموزها عن مسارهم، وهو ما ستطلق عليها صفة مراجعات كما حصل من قبل مطلع التسعينات.
على أن ذلك لا يعفينا من النظر في منظومة التفكير والفقه، وكذا الفتوى التي تدفع بعض الناس إلى مستويات مثيرة من العنف والتطرف، سواءً تجلى ذلك بعنف مباشر أم غير مباشر.
يحلو لبعض أنصار السلفية التقليدية (الجامية بالتعبير الخليجي) أن يتهموا سيد قطب بهذا الذي يجري في المرحلة الأخيرة، وذلك تهرّبا من نسبته إلى منهجهم، مع أن الحقيقة غير ذلك، فهذه الموجة الأخيرة من العنف تنتسب إلى السلفية شئنا أم أبينا، وإلى فقه الفرقة الناجية الذي جعل “خير أمة أخرجت للناس”، أسوأ من الأمم الأخرى كما هو تعليق الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في رده على حديث الفرقة الناجية، مع رفضنا لتحميل المسؤولية للفكر السلفي، لأن إمكانية اندلاعها (بتوفر ظروفها الموضوعية) بغطاء فكري آخر كان واردا أيضا، وإن بتفاصيل مختلفة من الفتاوى الداعمة.
الذي لا يقل أهمية عن ظاهرة العنف المسلح، هو العنف الفكري، أو الإقصاء الذي ينتشر كثيرا في أوساط معينة، تدّعي احتكار الحق، وتعتبر نفسها عنوانا له، وما سواها الضلال.
الحق أن أحد أهم أسس الإشكال الذي نواجهه تتمثل في جعل الحديث حاكما على القرآن الكريم، وهذه معضلة كبيرة في ظل وجود نصوص صحّحها بعض العلماء، لكنها تصطدم مع القرآن الكريم. ويكفي مثالا على ذلك أن نرى آيات صريحة في القرآن الكريم تتحدث عن حرية الاعتقاد (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لست عليهم بمسيطر، لا إكراه في الدين، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، في حين نرى هناك من يقول إن الكفر مبرر للقتال استنادا إلى بعض النصوص.
إن المعضلة التي ستظل تواجهنا بعد نهاية هذه الموجة من العنف، وكما كان الحال قبلها هي تلك التي تتمثل في الإقصاء، فمن يجدون الرعاية لأن فقههم ضد السياسة والمعارضة، تجدهم يصطدمون بقطاع عريض من الناس عبراعتبارهم فاسدي العقيدة، ويكفي أن يعتبر بعضهم الأشاعرة ضمن هذه الفئة حتى ندرك أنهم أدخلوا الغالبية في هذا الإطار، ومن عباءة هذا النمط من التفكير يخرج من يتبنون العنف نهجا.
مرة أخرى، هذا ليس اتهاما لفكر بعينه، فالسلفية في أصلها حركة إصلاحية هدفها تنقية الدين من البدع والخرافات، كما أن الإقصاء نهج يتورط فيه آخرون من أفكار أخرى، وقد رأينا إشكالية مؤتمرغروزني على سبيل المثال حين أخرج السلفية من دائرة أهل السنّة والجماعة.
إن التسامح والبعد عن احتكار الحقيقة المطلقة ليس ترفا، بل ضرورة حتى نخرج من هذه الدائرة البائسة التي كانت سابقة على موجة العنف الأخيرة وستبقى بعدها، فهذا الدين لم يحتكره أحد في أي يوم من الأيام، ويجب أن يتم الاعتراف بوجود تفسيرات متباينة، وأفهام مختلفة، ولو كانت النصوص؛ بخاصة الحديثية كافية لحسم الخلاف، لما كانت هناك مشكلة عبر القرون، وأكبر دليل على ذلك هو أن من يحملون السلاح ويكفّرون لهم ذات المرجعية الفكرية التي يتبناها من يصفونهم بالخوارج (أي الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمة).
يخرج عالمٌ ليعيد النظر في حديث، ليس لأن متنه مخالف للقرآن الكريم وحسب، بل لملاحظات على سنده أيضا، فيهب أدعياء احتكار الحقيقة ليوسعوه شتما وتشكيكا، مستندين إلى مساحة الحركة التي يتمتعون بها، والتي تمنحهم فرصة الهجاء بحق من يشاؤون، بل والتحريض عليه أيضا.
مرة أخرى نقول، إنها معضلة تتجاوز أزمة العنف الأخيرة التي ستنتهي بنهاية الظروف التي أنتجتها.. تتجاوزها لتشمل بعض أشكال الخطاب الديني الذي يوحي بأن الله لم يخلق الخلق إلا كي يعذبهم، لا ليرحمهم؛ هو الذي خلقهم ويعرف ما يعانونه من عناصر ضعف ونقص، ومن تعددية في الفهم أيضا.
الدستور 2017-01-11